النازحون وعشوائيات الضرورة الوطنية: مخيم "منتزه النخيل" نموذجاً!!
13 مارس, 2024 02:47 صباحاًد. أحمد يوسف
قبل عقدين من الزمن، لم يكن يخطر ببالي أنَّ قطعة الأرض المهجورة المجاورة لمنزلي ستتحول من مكبٍّ للنفايات إلى منتزه عائلي مؤنس وجميل، أسهم في إعادة تأهيله للاستخدام والاستجمام والترفيه ثُلة من شباب الجيران بحي "تل السلطان"، حيث عملوا على تجهيزه ليكون منتزهاً عاماً يطيب لساكني الحي الجلوس واللعب والتسامر به، بعدما جرى تشجيره وتعشيبه وهندسته بالحجر القدسي، ليكون معلماً مميّزاً ضمن معالم منطقة الحي المحدودة.
وتمر السنون هادئة على هذا الصرح الجميل، لتقع الحرب العدوانية الواسعة على قطاع غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي، والتي اتخذها نتنياهو واليمين المتطرف في إسرائيل ذريعةً لتسويق سياسة "الإبادة الجماعية" ضد سكان القطاع، الأمر الذي فرض على مئات الآلاف من السكان النزوح جنوباً باتجاه مدينة رفح، حيث اكتظت كلُّ المساحات الزراعية المعروفة بـ(منطقة المواصي)، وإلى جانبها معظم الساحات المفتوحة باتجاه البحر بالخيام، بغرض إيواء كلّ هؤلاء القادمين نزوحاً من شمال القطاع ووسطه، ولتصبح المدينة بأحيائها المتواضعة، وخاصة حي الشابورة و"تلّ السلطان" والجنينة، محطَ رحالٍ للكثيرين منهم.
وللحقيقة القول، إننا لم نكن نظن يوماً أنَّ مدينة رفح، التي يقطنها حوالي 300 ألف نسمة على مساحة 60 كيلو متر مربع، ستصبح موطناً لخيام مليون وربع المليون نازحٍ، مطلوبٌ من أهلها -وأغلبهم أصلاً من اللاجئين- توفير إيواء كريم لكلِّ هؤلاء الذين حملتهم أقدامهم مع أطفالهم إلى المدينة نازحين، والتعجيل بتقديم تسهيلات ضرورية من بينها الطعام والشراب والكساء والمرافق العمومية كالمراحيض وأماكن الاستحمام ونحو ذلك، فيما البُنية التحتية للمدينة غير مؤهلة لمثل هذه الأعداد الهائلة من النازحين.
أخذت الخيام تتمدد بعشوائية في كافة أرجاء المنتزه يوماً بعد يوم، وإذ به بعد أقل من أسبوعين يتحول من مركز إيواء طارئ، إلى مخيمٍ لمعاناته وجع وأنين، إذ غدا عدد قاطنيه من النازحين مع الجوار الملاصق أكثر من 400 عائلة، تحتاج إلى كلِّ شيءٍ من مقومات الحياة.
اجتهدنا بعلاقاتنا الشخصية أن نوفِّر للمخيم "تكيِّة" للطعام، تقدم وجبتي الإفطار والغداء، مع طرود غذائية وأخرى تحتوي على ملابس للكبار والصغار، إضافة لمجموعة من الخيم التي شكَّلت عمادة الإيواء داخل المركز.
لا شكَّ أنَّ للمساعدات الإماراتية المميزة، التي أشرف على توزيعها تيار فتح الإصلاحي، الذي يقوده النائب محمد دحلان والأخ سمير المشهراوي، حيث كان لنا منها حصةً مجزية ونصيباً مُقدَّراً، أسهم في سدِّ حاجة الكثير من هؤلاء النازحين، القاطنين داخل مركز الإيواء الذي أقمناه والمسمى بـ "مخيم منتزه النخيل".
لقد تمكنَّا بما توفر من مساعدات جُلبت من جيوب الخيِّرين من الأصدقاء في قطر والأمارات والسعودية والأردن وأمريكا وتركيا وبريطانيا من توزيع مساعدات نقدية وأخرى إغاثية لجبر خواطر الكثيرين من بين هؤلاء، الذين اضطرت غالبيتهم مغادرة بيوتهم على عجل، للنجاة بأنفسهم وأولادهم من مناطق شمال القطاع، دون أن يحملوا معهم شيئاً من أموالهم وممتلكاتهم، حيث داهمهم الغزاة المحتلين من كلِّ جانب، ومن كُتبت له الحياة منهم نجوا بجلودهم "لا قُدَّامهم ولا وراهم" أو كما نقول في أمثالنا الشعبية "يا رب كما خلقتني"، وهو ما عاظم من حجم الأمانة والمسؤولية الوطنية علينا، بعدما انهارت معظم المؤسسات الإغاثية الرسمية والشعيبة كذلك.
ونظراً لشدة العدوان على قطاع غزة وأعداد المجازر التي تمَّ ارتكابها، تحركنا بسرعة كمتطوعين لتقديم "جُهد الاستطاعة" من المساعدات الإنسانية عبر التواصل مع أصدقائنا في الداخل والخارج، ونجحنا –بفضل الله- في استقدام بعض الدعم من المساعدات الإغاثية والنقدية التي أخذت طريقها إلى خيم هؤلاء النازحين وجيوبهم، وخاصة في "مخيم منتزه النخيل".
لقد تمكنت من خلال ما لديَّ من دائرة صداقات وشبكة تواصل مع الجميع من الحصول على عددٍ من شاحنات الإغاثة التي تحمل أغطيةً وطروداً غذائية من الهلال الأحمر الفلسطيني، وكذلك مساعدات من مؤسسة التنمية الاجتماعية بالمدينة، وأيضاً من مؤسسة الإغاثة التركية (IHH)، وجمعية البركة الجزائرية، ومن الإخوة في تيار فتح الإصلاحي، وقد كان لهذه المساهمات الإغاثية والمالية الفضل في تحقيق حالة من الاستقرار النسبي لهؤلاء النازحين، والذين لم يكن أحداً منهم يتوقع أن تطول حالة الحرب وسياسة الحصار والتجويع كلَّ هذه المدة من الزمن، حيث لا يظهر في الأفق -حتى اللحظة- أنَّ هناك حالة انفراجٍ قريبٍ لها.
وعليه؛ فقد عقدنا العزم مع عدد من الإخوة في الحي على تشكيل لجنة للإشراف عن المخيم، والعمل على مواصلة الجهد لجلب المزيد من الدعم والمساعدة لهؤلاء النازحين في المخيم، وألا نتخلى بأيِّ حالٍ عن مسؤوليتنا الوطنية والأخلاقية إلى أن تضع الحرب أوزارها، ويتم مأسسة هذا العمل الإنساني بشكل رسمي عبر جهات دولية كوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) أو صناديق دعم عربية وإسلامية وأخرى فلسطينية محلية سيقع على عاتقها بالدرجة الأولى عبء التحدي والاستجابة لهذه الكارثة الإنسانية، التي لم يكن هناك من يتوقعها أو يحسب لها حساباً.
إنَّ "مخيم منتزه النخيل" وغيره من عشرات المخيمات التي تأوي نازحين، هو اليوم أشبه بعشوائيات الضرورة التي فرضت نفسها، وهي تحتاج إلى دعم أهل الخير من الميسورين، وإلى إسناد حقيقي من المؤسسات الإغاثية في عالمنا العربي والإسلامي، للحفاظ على صمود شعبنا الفلسطيني وثباته على أرضه، فيما تبدو سياسات إسرائيل التجويعية وأساليبها في القتل الوحشي للمدنيين، والتدمير الممنهج لكلِّ مرافق الحياة الصحية والتعليمية والمعيشية في القطاع، أنها تهدف إلى إجبار السكان على التهجير القسري أو الطوعي، والدفع بالغالبية العظمى منهم إلى اخلاء مدنهم وقراهم -طوعاً أو كرهاً- باتجاه دول الجوار.
وبالرغم من الظروف الصعبة التي يعيشها هؤلاء النازحين في مراكز الإيواء المؤقتة كمخيم منتزه النخيل في حي تل السلطان جنوب غرب مدينة رفح، إلا أن روح الصمود والثبات والتمرد على الاحتلال ما تزال عالية، وهذا ما تعكسه حيوية الأنشطة الحركية التي يقوم بها أطفال المخيم، حيث يمارسون طقوس طفولتهم بكلِّ براءة ورجولة.
ومع إطلالة شهر رمضان المبارك، قام هؤلاء الفتية بجمع بعض المال وتزين مداخل المخيم وساحاته بالأضواء وتعليق بعض الفوانيس والشعارات الوطنية، في رسالة واضحة لأولئك الغزاة المحتلين: موتوا بغيظكم.. فنحن باقون رغم النزوح.. لن نرحل، وسنظل على أرض وطننا صامدين حتى النصر والتمكين.