ما أبعاد بيان السلطة الهجومي الصادر بعد إنجازات “معركة جنين” الأخيرة؟
17 يوليو, 2023 03:29 مساءًقَبْل أسبوعين بالتمام على بدء العدوان العسكري الواسع الأخير، 3 تموز 2023، على مخيَّم جنين، حصل تطورٌ نوعينٌ في المخيّم حمل في طياته مؤشراتٍ على طبيعة المرحلة القادمة في الضفَّة، إذ حاولت قوةٌ مدرَّعةٌ صهيونيةٌ كبيرةٌ نسبيًا، في 19 حزيران 2023، الدخول إلى المخيَّم، إلَّا أنَّ مقاتلي “كتيبة جنين” نجحوا في استدراج أحد المدرَّعات إلى كمينِ عبواتٍ ناسفةٍ شديدة الانفجار يتم تفجيرها عن بُعدٍ، مما أدى إلى إخراج تلك الآلية المدرَّعة الحديثة من الخدمة العسكرية وإفشال عملية الاقتحام برمَّتها، وقد استخدم مقاتلو “كتيبة جنين” في عملية استدراج القوات المهاجمة تكتيكاتٍ قتاليةٍ مدروسةٍ لم تظهر سابقًا في المخيَّم.
أظهرت تلك الواقعة انتقال “كتيبة جنين” إلى مستوىً جديدٍ في العمل الميداني، سواءً من جهة تحسُّن قدراتها التصنيعية للمتفجرات والعبوات الناسفة الموجهة والقابلة للتفجير عن بُعدٍ، أم من جهة القدرة على توظيف المناورات القتالية المناسِبة في ساحة المعركة، وقد أشَّر ذلك إلى بداية دخول الضفَّة، منذ حزيران الماضي، في طورٍ مختلِفٍ نوعيًا من العمل المقاوم في مسار ثورتها المتصاعدة، وذلك بعد مرحلتيّ عمليات “السكاكين” ومنثم عمليات الاشتباك المسلَّح الفردي، كما أظهرت تلك الواقعة مدى الجدية التي يتمتع بها مقاتلو “كتيبة جنين” وباقي فصائل المقاومة في المخيَّم، بالإضافة إلى حجم الدعم اللوجستي الذي تلقوه خلال الفترة الماضية، والذي اثمر إنجازًا في “معركة جنين” الأخيرة، 3 تموز 2023، أو عملية “البيت والحديقة” كما أسماها الكيان المؤقت.
لكن كان من أهم ما أظهرته تلك الواقعة أيضًا، الفشل الكامل لأساليب الاختراق والاحتواء بالقوة الناعمة في مخيَّم جنين، التي اتبعها كلٌ من العدو الصهيوني والسلطة الفلسطينية على حدٍ سواءٍ ضدَّ المخيَّم وعموم أراضي الضفَّة، وذلك بهدف كبح ظاهرة تنامي المقاومة، تلك الأساليب التي كانت قد أعطت نتائج مقبولةٍ من وجهة نظر العدو – ولو جزئيًا – في مناطق أخرى من الضفَّة، والتي كانت حصيلة “الاجتماع الخماسي” في مدينة العقبة الأردنية، 26 شباط 2023، والاجتماع الذي تبعه في شرم الشيخ المصرية، 19 آذار 2023، بين ممثِّلين عن كلٍ من حكومة الاحتلال والسلطة الفلسطينية برعايةٍ أميركيةٍ، إذ تعهد الجانبان “خفض التصعيد على الأرض ومنع المزيد من العنف” كما ورد في النتائج المعلنة لاجتماع العقبة سيِّء الصيت ذاك.
من هنا جاء سياق العدوان العسكري الواسع الذي شنَّه جيش الاحتلال ضدَّ مخيَّم جنين، 3 تموز 2023، والذي امتد لمدة يومين، باستخدام الطائرات ومئات العربات المدرَّعة والجنود، ففشل سلطة رام الله وأجهزتها الأمنية بما تعهدت به للاحتلال في اجتماع العقبة بالقضاء على الحراك المقاوم في الضفَّة عمومًا، من خلال الأساليب الأمنية ومحاولات الاحتواء، وضَع الاحتلال أمام اختبارٍ جديٍ في مخيَّم جنين، فإما الاستمرار بالسياسات السابقة التي فشلت في كبح تطور حالة المقاومة في المخيَّم، وإما اللجوء إلى العمليات العسكرية الواسعة، في محاولةٍ لإعادة عقارب الساعة في المخيَّم إلى الوراء، وإحباط مسار الطور الجديد الذي افتتحته “كتيبة جنين” وباقي الفصائل في المخيَّم في حزيران الماضي.
يُعد عدوان 3 تموز 2023 العسكري الواسع ضدَّ مخيَّم جنين، أول اختبارٍ ميدانيٍ حقيقيٍ للمستوى القتالي الذي وصل إليه المخيَّم، ولقدرة جيش الاحتلال على الحاق ضربةٍ قاسمةٍ للتشكيلات القتالية فيه ولبناها التحتية، وفي هذا مصلحةٌ رئيسيةٌ للاحتلال، بصفة الضفَّة ساحة الاشتباك الإستراتيجي بينه وبين قوى المقاومة في هذه المرحلة.
لكن بالتوازي، كان أيضًا لسلطة رام الله مصلحةٌ في القضاء على ظاهرة المقاومة وحالة “كتيبة جنين” في المخيَّم، أو اقله تحجيمها إلى حدٍ بعيدٍ، إذ تدرك السلطة أنَّ تعاظم قوة المقاومة في الضفَّة واستمرارها، يؤدي إلى زيادة ضعف قبضتها الأمنية، التي تراجعت هناك بالفعل كما بات يقر الجميع، وتشعر السلطة إزاء ذلك بفقدانها لدورها الوظيفي، أو كما تسميه: الالتزام “بجميع الاتفاقات السابقة” بينها وبين الاحتلال، أو “التنسيق الأمني” بصورةٍ أوضح.
لقد نجحت “كتيبة جنين” والمقاومة في تجاوز الاختبار الأول لمستواها القتالي الميداني، إذ أفشلت أهداف عدوان 3 تموز 2023 على مخيَّم جنين، فقد خرجت منه بأقل الخسائر البشرية في عديد المقاتلين والقيادات الميدانية، برغم حجم الدمار الكبير الذي أصاب البنية التحتية المدنية للمخيَّم، وقد ظهر نجاح المقاومة في تعريض جيش الاحتلال لكمائن العبوات الناسفة أثناء انسحابه، واستمرار الاشتباكات المسلَّحة حتى خروجه تمامًا من المخيَّم.
لقد شكَّل هذا النجاح نكسةً لجيش الاحتلال، لكنَّه شكَّل أيضًا ضربةً للسلطة ومشروعها القائم على “التنسيق الأمني”، لا يعني هذا أنَّ قيادات السلطة كانت فرحةً بسقوط الشهداء من المدنيين في العدوان الأحدث على مخيَّم جنين، لكنها على الأرجح كانت تتطلع إلى إنهاء حالة المقاومة في المخيَّم، وبغض النظر عن تطلعات السلطة، فإنَّ مشروعها المعلن، الذي تعمل عليه ليلًا نهارًا، يقوم على إنهاء كل أشكال المقاومة المسلَّحة في الضفَّة.
من هنا لم يكن مستغربًا على الإطلاق وقوفها موقف المتفرِّج أثناء اجتياح مخيَّم جنين على أقل تقديرٍ، بل على العكس، إنَّ أي موقفٍ آخرٍ منها كان سيكون المستغرَب، إلَّا إذا كانت ستخرج من مهزلة “أوسلو”، وتتراجع بصورةٍ فعليةٍ ونهائيةٍ عن جريمة “التنسيق الأمني” مع الاحتلال ضدَّ المقاومين لحماية أمن المستوطنين، وهذا أمرٌ يبدو عصيًا على الوقوع.
لقد عبَّر الشارع الفلسطيني بوضوحٍ عن سخطه اتجاه الحال المخزي الذي وصلت إليه السلطة بكل المعايير الوطنية، وتجلى ذلك في طرد رموزها من مراسيم تشيع شهداء مخيَّم جنين، لكن البيان الهستيري الذي صدر عن السلطة، باسم حركة “فتح”، عقب منع الجماهير لرموز “التنسيق الأمني” من التواجد في جنازات الشهداء، لم يكن متعلقًا بتلك الحادثة فقط، إنما كان في العمق تعبيرًا عن مدى التخبط الذي تعيشه رموز “التنسيق الأمني” بعد فشَل جيش الاحتلال في اجتثاث الحالة المقاوِمة في المخيَّم، بما يعنيه ذلك من تهديدٍ مباشرٍ لاستمرارها الذي بات مرتبطًا بوجود الاحتلال ذاته، بعدما أسقطت من يدها كل أوراق القوة في مواجهة الاحتلال، وذلك حينما ارتضت لعب دور الحارس عند المحتل بحربها المعلنة على سائر فصائل المقاومة الفلسطينية والإقليمية كذلك، فهل يعقل أن تُصدِر السلطة، في 5 تموز 2023، فور انتهاء العدوان على مخيَّم جنين، بيانًا تقول فيه “نعلنها علنيةً، ومنذ هذه اللحظة، بأنَّ حركة الشر الحمساوية هي حركةٌ محظورةٌ على هذه الأرض الطاهرة، بالإضافة إلى كل من يتساوق معها من قريبٍ أو بعيدٍ”؟
يمكن القول بعد فشَل العدوان الأحدث على مخيَّم جنين، بأنَّ المقاومة في الضفَّة قد أسَّست قاعدةً صلبةً للمرحلة الجديدة التي دخلتها الثورة في الضفَّة في حزيران الماضي، وأنَّها قد انتقلت من “المرحلة الحساسة التي تتهدَّد الضفَّة” إلى مرحلةٍ أكثر سخونةً، والخوف من أن تقْدِم السلطة وأجهزتها الأمنية، بسبب حالتيّ الهستيريا والتخبُّط اللذين تعيشهما بعد التطورات الأخيرة، على خطواتٍ مجنونةٍ بالاصطدام المباشر والخشن مع قوى المقاومة في الضفَّة، بدلًا من الأساليب الأمنية والاحتواء التي مارستها في حق المقاومة خلال المرحلة الماضية.