جـنـيـن بـيـن سـلطـتـيـن
13 يوليو, 2023 08:37 مساءًقام "الجيش" الإسرائيلي بعملية "السور الواقي" في آخر شهر آذار/مارس من عام 2002م للقضاء على انتفاضة الأقصى في الضفة الغربية، ومن أهم أحداثها معركة مخيم جنين التي استشهد فيها عشرات المقاومين وقُتل فيها (23) جندياً إسرائيلياً.
وبعد عقدين من الزمن، نشأ جيل جديد من الثوار المقاومين اتخذوا من مخيم جنين مقرّاً لهم، ما دفع "الجيش" الإسرائيلي إلى القيام بعملية عسكرية كبيرة مطلع شهر تموز/ يوليو الحالي أطلق عليها اسم "بيت وحديقة"، هدفها المُعلن تدمير البُنية التحتية للمقاومة الفلسطينية في جنين، خاصة "كتيبة جنين" التابعة لـ"سرايا القدس "، الذراع العسكرية لحركة "الجهاد الإسلامي" في فلسطين.
المقاومة أطلقت على عملية الدفاع عن المخيم اسم "بأس الأحرار"، واستمرت العملية يومين كاملين من دون أنْ تحقق أهدافها الإسرائيلية، بعد أن امتصت المقاومة الضربة الأولى واتحدت ميدانياً وتلاحمت مع حاضنتها الشعبية، وكان من أهم نتائج العملية وضوح تأكّل السلطة الفلسطينية التي نشأت بعد اتفاقية أوسلو وتقدم السلطة الثورية أو سلطة المقاومة في جنين التي توزعت بين سلطتين متناقضتين، من الممكن أنْ نجعلهما متكاملتين في إطار المشروع الوطني الفلسطيني، وهذا يتطلب العودة إلى أصل فكرة السلطة الوطنية.
تبلور الفكر السياسي للحركة الوطنية الفلسطينية بعد نشأة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964م كأول إطار وطني فلسطيني منظم وقوي بعد النكبة ، وقد لخّص الميثاق الوطني الفلسطيني الفكر السياسي للمنظمة ومحوره هدف تحرير أرض فلسطين المحتلة عام 1948م بوسيلة الكفاح المُسلّح، وبعد هزيمة 1967م المعروفة بالنكسة وضياع بقية فلسطين، بدأ الفكر السياسي الفلسطيني للمنظمة يبحث عن مبررات للتراجع عن الهدف والوسيلة، خرجت إلى العلن بعد حرب أكتوبر عام 1973م وفقدان الثقة في دور الجيوش العربية في تحرير فلسطين، فظهرت فكرة الحل المرحلي التي تبلورت في برنامج النقاط العشر للمنظمة عام 1974م.
تضمن البرنامج في بنده الثاني فكرة السلطة الوطنية بالنص: "تناضل منظمة التحرير بالوسائل كافة وعلى رأسها الكفاح المُسلّح وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها"، واستكملت ذلك في بندها الثامن بتحديد دور السلطة الوطنية بـ "استكمال تحرير كامل التراب الفلسطيني"، ومع مرور الزمن وتحت مبررات الواقعية الثورية والتكيف مع المتغيرات الإقليمية والدولية ورغبةً في الاستثمار السياسي السريع للانتفاضة الأولى، تخلّت المنظمة عن "الكفاح المُسلّح" كوسيلة لإقامة السلطة الوطنية، وحصرت " الوسائل كافة" بالتسوية السلمية عبر المفاوضات مع الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين.
أدت المفاوضات إلى اتفاقية أوسلو عام 1993م التي نصت على إقامة "سلطة فلسطينية" تتناقض جوهرياً مع مضمون السلطة الوطنية في برنامج النقاط العشر المرحلي المُقامة على أرض مُحررة من الاحتلال بالكفاح المُسلّح وليست سلطة ممنوحة من الاحتلال على أرض غير مُحررة. فكانت المنظمة بذلك مُخالفة لمنطق حركات التحرر الوطنية التي تُقيم سلطتها الثورية أو سلطة المقاومة على الأرض التي تُحررها من الاحتلال أثناء نضالها الوطني ضده لتكون نواةً تنطلق منها لتحرير كامل الأرض، والذي قامت به المنظمة بعد إقامة السلطة تجاوز تلك المخالفة لتقوم بدور وظيفي أمني ضد المقاومة خدمةً للاحتلال.
وبعد نحو ثلاثة عقود على إقامة السلطة الفلسطينية كأمرٍ واقع من دون رحيل الاحتلال والاستيطان، وانقسامها إلى نموذجين في علاقتها بالمقاومة ما بين رام الله و غزة ، وبروز دور المقاومة كسلطة ثورية، لا سيما في جنين، تنافس أو توازي سلطة أوسلو، من المفيد فلسطينياً التوصل إلى صيغة توافقية وطنية تمنع الصدام بين السلطتين، وصولاً إلى تكامل الأدوار في إطار المشروع الوطني الفلسطيني بنسخته الأصلية الهادفة إلى تحرير كل فلسطين، وعودة كل اللاجئين.
ولتحقيق هذه الصيغة التوافقية الوطنية من الضروري العودة إلى استراتيجية "مرحلية التحرير" وفق برنامج النقاط العشر بمفهومه الثوري " سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة" على أرض مُحررة، ووفق نموذج قطاع غزة ومقاومته التي تتكرر في جنين بنموذجها الخاص، وهذا يعني التخلّي عن "مرحلية التسوية" وفق نموذج اتفاقية أوسلو التي أخرجت منظمة التحرير من محطة الثورة من دون أن تصل إلى محطة الدولة فعلِقت في محطة السلطة الوظيفية في خدمة الاحتلال.
استراتيجية مرحلية التحرير تقتضي تحويل السلطة الفلسطينية إلى سلطة وظيفية تخدم المشروع الوطني الفلسطيني – وليس الاحتلال – من خلال إدارة شؤون الشعب الفلسطيني المدنية وتوفير متطلبات الصمود للشعب داخل وطنه وفوق أرضه، في إطار تكاملي مع المقاومة كسلطة ثورية وظيفتها أن تجعل للاحتلال والاستيطان ثمناً باهظاً ومُكلفاً في الضفة الغربية، وتضع الكيان الصهيوني في مأزق أمني ووجودي يضطره إلى الانسحاب من الضفة الغربية أسوة بقطاع غزة كخطوة على طريق تحرير كل فلسطين.
التكامل في إطار المشروع الوطني بين السلطتين يتطلب بدوره بناء استراتيجية وطنية موحدة تتجاوز قيود أوسلو وتتخطى واقع الانقسام وترتكز على محوري الصمود كوظيفة للسلطة والمقاومة كوظيفة للفصائل، وهذا يقتضي إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أساس استحقاقات مرحلة التحرر الوطني، وأهداف المشروع الوطني؛ لتكون السلطة رافعةً للنظام السياسي، ورافداً للمشروع الوطني، وداعماً لصمود الشعب ورديفاً لفصائل المقاومة.
هذه الصيغة التكاملية بين سلطة فلسطينية وظيفتها دعم صمود الشعب الفلسطيني وسلطة ثورية وظيفتها مقاومة الاحتلال، لتكتمل ركيزتا المشروع الوطني الفلسطيني – الصمود والمقاومة – لا يمكن أن تتحقق بوجود فكر سياسي قاد الشعب الفلسطيني إلى مأزق أوسلو، وبوجود نخبة سلطوية ربطت مصير السلطة بخدمة الاحتلال وعندما يتغير هذا الفكر وتلك النخبة سيتحقق التكامل والتوافق بين السلطة والمقاومة في جنين وكل فلسطين كوجهين لمشروع وطني واحد هدفه تحرير كامل فلسطين وعودة كل اللاجئين وإنجاز الاستقلال الوطني بعمقه العربي والإسلامي.
وإن لم يتحقق ذلك فلا خيار لنا كفلسطينيين سوى العودة إلى الأصل في مرحلة الكفاح الوطني لتحرير فلسطين بوجود شعب يقاوم الاحتلال من دون سلطة حاجزة بين الشعب والاحتلال.