الإرهاب والشاباك
11 يونيو, 2023 05:49 صباحاًبات المجتمع العربي محكومًا بالجريمة، فهي أداة تحكم وسيطرة وتفكيك للمجتمع، ومبتلٍ بـ"قيادات سياسية" لا تجيد سوى التهريج والتراشق الإعلامي كما حدث في الأسبوع الجاري، بين نواب "الجبهة والعربية والتغيير" و"القائمة الموحدة" عشية لقاء نواب الجبهة مع رئيس الحكومة
ظهرت أمس شرطة إسرائيل في صورتها الحقيقية كما يراها المجرمون القتلة؛ غير جدية وغير مهنية حتى؛ وإذ بأحد قادة الشرطة في الشمال يظهر في فيديو عممته الشرطة يعدد "إنجازات" الشرطة في "تحطيم منظمات الجريمة" ويتوعد بأنها سوف تستمر بذلك، برطنة ولهجة كأنها عسكرية، لكن على بعد أمتار معدودة منه كانت الدماء ما تزال تسيل في ساحة الجريمة في يافة الناصرة التي وصفها بـ"العملية الجنائية". وفي النهاية، يطلب هذا القائد في الشرطة بأن توافق النيابة العامة على استخدام الشرطة للاعتقالات الإدارية لمشتبهين من منظمات الجريمة أو الجريمة المنظمة.
رغم عسكرية خطابه واستخدام تعابير مثل تحطيم أو سحق منظمات الجريمة، إلا أن ذلك لا يغطي الواقع الدامي في البلدات العربية؛ فقد تجاوز عدد القتلى التسعين ضحية، فيما قارب عدد القتلى في الفترة ذاتها من العام الماضي نحو 30 قتيلا. فإذا كان هذا إنجازاً للشرطة، فلا نعرف ما هو الفشل.
وليست هذه الكلمات من باب التعويل على الشرطة، فمفتشها الحالي، يعقوب شبتاي، قال في جلسة مع بن غفير قبل شهور إن العرب "يقتلون بعضهم البعض، هذه عقليتهم، ليس ثمّة ما يمكن فعله"، "هذه عقليتهم"، وهذه ليست زلة لسان، بل عقيدة بنيوية تعكس تعامل الشرطة مع المواطنين العرب. من جهة عنصرية واعتبارهم خطرًا أمنيًا، ومن جهة أخرى استهتار في حياتهم وأرواحهم. وأكبر دليل على ذلك هو السؤال الذي لا ينتظر الإجابة: من منا اليوم يفكر بالتوجه للشرطة حتى للتبليغ عن سرقة؟
إن العنصرية تجاه العرب واحتقارهم هي بنيوية، وينتج عنها استهتار بأرواحهم وأمنهم، والمطالبة بإشراك جهاز "الشاباك" في محاربة الجريمة ليست إلا دليلاً على ذلك - وهذا المطلب ليس جديدًا، وترسيخ التعامل الأمني مع الجريمة في البلدات العربية، وتجاهل الظروف السياسية والاقتصادية التي تسببت بها، بدءًا بالتضييق على البلدات العربية جغرافيًا وسياسيًا، ما انعكس على تشوه البنى الاجتماعية في هذه البلدات، في موازاة تحولات اقتصادية جعلت من البلدات العربية أحياء فقر في مظاهر من الثراء المزيف القائم على الاستدانة من السوق السوداء.
تقول الشرطة إن الجريمة الأخيرة هي استمرار لصراع بين طرفين على مناطق نفوذ قتل خلاله 27 شخصًا منذ بداية العام الجاري. وتقصد بمناطق النفوذ كل ما يتعلق بالسوق السوداء التي تحوّلت إلى اقتصاد مواز يقدر حجمه بمليارات الشواكل. وامتدت "استثمارات" هذا الاقتصاد إلى خارج البلاد، إلى تركيا والإمارات ودول أخرى، بهدف تبييض الأموال من خلال "استثمارات قانونية"، عقارية وغيرها في الخارج.
لا ترتبط الجريمة بـ"عقلية" عربية كما يدعي المفتش العام للشرطة، بل ترتبط أساسًا بالعقلية العنصرية، والأمنية، ليس في الشرطة فحسب، بل بأجهزة الدولة المختلفة منذ عقود، التي تشمل مؤسسات التخطيط المسؤولة عن مصادرة الأراضي وخنق البلدات العربية وتحويلها إلى أحياء فقر وجريمة، والمؤسسات المسؤولة عن التربية والتعليم ومناهجها وخلق شخصية عربية مشوهة غير مؤهلة للالتحاق بالجامعات والسوق، سوى بالحداثة الاستهلاكية و"النجاحات الفردية"، وإلى المؤسسات الاقتصادية مثل البنوك التي انسحبت من البلدات العربية بعد إغراقها بالقروض (غير المسددة) ونتج عن ذلك نشوء اقتصاد سوق سوداء.
صارت الجرائم في البلدات العربية توصف بـ"الإرهاب" أو "الإرهاب الجنائي" في وسائل إعلام إسرائيلية، خصوصًا إذا ما وقعت في "المدن المختلطة" و"أزعجت" السكان اليهود، وأزمة حوكمة وضعف سيادة الدولة بنظر اليمين المتطرف الحاكم، في موازاة تصاعد الحديث عن "الخطر الديمغرافي" العربي في الجليل ومشاريع تهويده مؤخرًا، وهذا يعني أنه حتى لو تدخل "الشاباك" في مواجهة هذا "الإرهاب" واستخدم الاعتقالات الإدارية، فإن مصدر الأزمة لا يزال قائمًا، وهو سياسي، أي سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
بات المجتمع العربي محكومًا بالجريمة، فهي أداة تحكم وسيطرة وتفكيك للمجتمع، ومبتلٍ بـ"قيادات سياسية" لا تجيد سوى التهريج والتراشق الإعلامي كما حدث في الأسبوع الجاري، بين نواب "الجبهة والعربية والتغيير" و"القائمة الموحدة" عشية لقاء نواب الجبهة مع رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو. لقد كان هذا مشهدًا مثيرًا للسخرية لو لم يكن يتعلق بقضية مصيرية للعرب، وما التراشق الإعلامي والبيانات إلا دليل على مستوى هذه "القيادات". ففيما تسيل دماء شبابنا في الشوارع يوميًا، تتعامل هذه "القيادات" مع القتل بكل استهتار واستخفاف و"فهلوية"، وذلك يفسر تراجع دور الأحزاب وابتعاد المواطنين عن السياسة وانعدام العمل الشعبي الجماهيري في مواجهة الجريمة والعنف. وهذا المستوى من السياسيين غير قادر على طرح مشروع جدي لمواجهة الجريمة، فأقصى ما يمكنه فعله هو مسرحية "ألو سيغالوفيتش" من بطولة النائب أيمن عودة؛ أو دعوة "أبو يائير" لزيارة بلدة عربية "وكأنها" بعد جريمة قتل، من سيناريو أحمد طيبي خلال اللقاء مع نتنياهو مؤخرًا.
يبدو أننا أمام منافسة فنية شرسة لعادل إمام بطل "الإرهاب والكباب"، لكن تنقصها خفة الدم، فدماء شبابنا ثقيلة وغالية. وبما أن أزمة الجريمة هي سياسية في أصلها ولا علاقة لها بعقلية العرب، بل بالعقلية العنصرية لأجهزة الدولة، فإن الحل ليس لدى "الشاباك"، بل في تغيير سياسات الدولة على المدى الفوري والبعيد، وفي تغيير نجوم السياسة عندنا. فمثلما فشلت الشرطة، فهم كذلك أيضًا، دون مستوى الأزمة المصيرية لوجودنا كشعب ومجتمع وأفراد، حتّى بات مطلبنا: "نريد الحياة... بدنا نعيش".