وصية الشهيد خضر عدنان.. قراءة تحليلية نقدية ..

11 مايو, 2023 12:00 مساءً
حماد صبح

الوصية فن نثري له في أدبنا مقام ملحوظ ، وتصنيفه نثريا لا يعني نفي الوصية الشعرية . يعني غلبة النثر عليه ، وهذا  تفرضه حقيقة صدور الوصية عن أناس ليسوا شعراء في كثرتهم . كل إنسان يوصي أهله  عند سفره ، أو يوصيه أهله بما يحفظه في غربته ، ومن الناس من يوصي قبل موته حين يستشعر اقترابه منه . وفي الحياة من الموصين  قدر ما فيها من علاقات اجتماعية وإنسانية  ومهنية . وفي تاريخنا وأدبنا وصايا مشهورة مأثورة ، منها وصية الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ قبيل انتقاله إلى الرفيق الأعلى ؛ للمسلمين بالتمسك بالقرآن الكريم والسنة النبوية اجتنابا للضلال .

ومنها وصية أبي بكر الصديق لأسامة بن زيد _ رضي الله عنهما _ حين ودع أولهما ثانيهما في قيادته لأول غزوة إسلامية للشام كان الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ قبل وفاته اختار أسامة قائدا لها ، وكلفه تحديدا بالاستيلاء على قلعة الداروم الرومانية قائلا : ” اغز الداروم ! ” ، وهي المكان الذي أقامت فيه إسرائيل بعد احتلالها لغزة في 1967 مستوطنة كفار داروم . وفي تلك الوصية توجيهات تفصح عن الأخلاق العظيمة السامية للعسكرية الإسلامية في بواكيرها . نهاه عن مس أصحاب أي عقيدة ، وعن قتل أي شاة إلا لمأكلة ، وعن قطع الشجر .
 ومن  العصر الجاهلي وصلتنا وصية أعرابية لابنتها عند  انتقالها إلى بيت زوجها مفارقة بيت أهلها ، وتوجهها في الوصية إلى فعل كل ما يسر عيني زوجها وقلبه ، ويحببه فيها . يستهل الشهيد  خضر عدنان وصيته مستخدما حرف التفصيل ” أما ” تدليلا على سبق شيء معلوم محدد بينه وبين من يوصيهم . يقول :” أما وقد اقتربت النفس من الشهادة فحق علينا أن نكتب وصيتنا . ” ، ويمهد لوصيته بعد البسملة بثلاث آيات تبين الأولى عمق إيمانه بالنعيم الذي ادخره الله _ تعالى _ للشهداء .

الآية هي : ” الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ” . الشهيد مطمئن إلى ما سيناله في الآخرة من نعيم خالد في الجنة ، ولا يحزن على ما فاته من متاع الدنيا الفاني العاجل ، ولا على من خلفهم وراءه من الأهل والأحباب لعلمه أن عين الله _ عز قدره _ تكلؤهم إكراما له . والآية الثانية :” ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ” .لا انتصار للكافرين على المؤمنين ، وتعزز الآية الثالثة الآية الثانية ، وهي : ” وحق علينا نصر المؤمنين ” .
ويتابع ، فيحمد الله على أن وفقه للإضراب عن الطعام الذي يصفه صادقا بأنه من أجل الحرية التي سلبه إياها عدو متحجر القلب مسكون النفس بكل صنوف العقد والرعب من المعلوم ومن المجهول ومن المتخيل . ويصور مدى ما هوت إليه حالته الصحية بعد إضرابه الطويل الرهيب ، فيقول إن شحمه ولحماه ذابا ، وإن عظمه نخر ، وإن قواه ضعفت .
ويصعد عاليا في عظمته بعد ذلك التصوير المروع الذي يكسر قلب من يقرؤه كسرا يفتته تفتيتا  ، فيذكر أنه يكتب من سجنه في ” الرملة الحبيبة الفلسطينية الأصيلة .” . ياله من قلب كبير فريد هذا الذي يهب في عنفوان ضعف جسده وهزاله وانهياره مدينة من وطنه ثلاث صفات عظيمات متلاحقات . هذا درس عظيم في حب الوطن . هول مأساته ودنو أجله لا ينسيانه ذلك الحب . ويحدد المقصودين بوصيته العظيمة . إنهم أهله وأبناؤه العشرة وزوجته وشعبه . ويبدأ بمخاطبة زوجته ، فيحذف حرف النداء دلالة على قربه النفسي والاجتماعي منها . ويوصيها مع أبنائه بجملة وصايا إسلامية النهج والروح تضمن لمن يعمل بها سعادة الدنيا والآخرة ، وتقيم علاقاته مع كل الناس ، من أقارب وجيران وسواهم ،  بما ينفعه وينفعهم .
ويواصل ، فيخاطب زوجته بكنيتها ( أم عبد الرحمن ) ، والخطاب بالكنية في عمومه خطاب تعظيم ومحبة ، وفيه هنا تنبيه إلى خصوصية العلاقة بين الزوجين . ويذكر بعد الخطاب أبناءه وبناته اسما اسما في حنان وحنين أبويين . ويحلق عاليا في عظمته ، فيطلب من الكل مسامحته ، علام ؟! لإنه شغل عنهم في سجنه بالواجب ! وحين يقترب من ختام وصيته العظيمة بإيمانها وإنسانيتها ووطنيتها ينادي شعبه :” يا شعبنا الأبي ! ” ، ويبشره بالنصر :” فمهما فعل المحتلون وتطاولوا في احتلالهم وظلمهم وغيهم فنصر الله قريب ، ووعده لعباده بالنصر والتمكين أقرب ” .ويختم الوصية المؤثرة  طالبا “دعواتكم أن يتقبلني الله  شهيدا مخلصا لوجهه الكريم ” ، ويوقعها ب ” محبكم خضر عدنان _ مشفى الرملة ” .
والوصية مؤرخة في الثاني من مايو الحالي ، يوم استشهاده بعد إضرابه 86 يوما عن الطعام دون أن تطلق حكومة الإرهاب والقتل الصهيونية سراحه خلافا لمرات إضرابه السابقة ، وهي في هذا الفعل الإجرامي تنفذ سياسية الوغد بن غفير وزير أمنها الوطني الذي يجتهد ويتحمس لسن قانون إعدام لأسرى الفلسطينيين . ولا يفطن همج الكيان الصهيوني إلى  دلالة  أن توغلهم الأهوج في قتل الفلسطينيين والقسوة المتشددة في تعاملهم معهم علامات ضعف ذاتي  يترسخ دون توقف ، لا علامات قوة وثقة في الذات مثلما يتوهمون . أسلوب  الوصية حسن بيانيا  لما في صياغته من استقامة في بناء الجملة ، وتوازن إيقاعي متجاوب مع حالة كاتبها الشعورية والذهنية ، وصحيح لغويا صحة تامة ، وتسلسل بنائها الكلي متلاحم متآزر الأجزاء من بدايتها إلى نهايتها ، ونستبعد تماما أنه كتبها في آخر أيامه حين استيقن  استشهاده . هل كتبها في وقت أبكر وقتما كان قادرا جسدا وذهنا على كتابتها ؟!
هل كتبها أحد سواه ؟! جواب السؤالين في خبر يقين . رحمك الله أبا عبد الرحمن ، وجعلك مع الأنبياء والشهداء والصديقين ، وحسن أولئك رفيقا ، وجعل لك مقعد صدق عند مليك مقتدر . شعب أنجبك له النصر المبين ، وعدو سجنك وقتلك له الدحرة  القاضية المهلكة ، وعار الخزي المشين المهين .

كلمات دلالية

اقرأ المزيد