22 عاماً على حصار كنيسة المهد... الحدث والتداعيات
10 مايو, 2023 10:20 صباحاًفتح ميديا - غزة:
شهدت انتفاضة الاقصى منذ اندلاعها في 28 أيلول/ سبتمبر عام 2000 الكثير من المحطات الفاصلة في تاريخ القضية الفلسطينية, وكان حصار كنيسة المهد في بيت لحم أحد هذه المحطات التي أثارت تساؤولات واستفسارات كثيرة عن طبيعة الصفقة التي بموجبها ابعد الفلسطينيون من الكنيسة؟ ومن المسؤول عن تلك الصفقة؟ وهل كان بالامكان البحث عن حل آخر اقل ضررا رغم الضغوط الدولية والمحلية الهائلة على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات؟, هذا الملف يعيد فتح احداث الكنيسة وربما لا يجب على معظم التساؤولات التي ستبقى معلقة حتى يجيب عنها التاريخ والوقائع.
بداية الحصار
في الثاني من أبريل/ نيسان عام 2002م قامت قوات الاحتلال الاسرائيلي بمحاصرة كنيسة المهد في مدينة بيت لحم والتي كانت تعيش تحت الحصار والمزيد من الاجتياجات ضمن حملة السور الواقي التي أطلقها رئيس الحكومة الاسرائيلية "ارئيل شارون"، حيث تقدم ما يزيد عن 200 فلسطيني ما بين مقاتلين ومواطنين وما بين رهبان من المسيحيين، فلم يكن أمام المقاتلين والمواطنين غير كنيسة المهد ليحتموا بها في ظل حصار للمحافظة ومنطقة السوق القديم وصعوبة المقاتلين الخروج الى خارج المحافظة.
فلم تكن بيت لحم الوحيدة تحت الحصار فنابلس ورام الله وجنين والخليل وكل مكان من أراضي الضفة الغربية كانت تعيش الحالة ذاتها، اطلاق نار من هنا وإطلاق صواريخ من هناك ودمار في كل مكان، والهدف من ذلك هو القضاء على المقاومة الفلسطينية، حيث اعتبر المراقبون ذلك أشرس اجتياح اسرائيلي للضفة الغربية منذ اتفاقيات أوسلو.
ومع اشتداد الحصار على المحافظة وعلى البلدة القديمة في بيت لحم ومع سقوط مزيد من الشهداء والجرحى دون تقديم أي إسعافات لهم، لم يكن أمام المقاتلين إلا كنيسة المهد فقاموا بفتح أبواب الكنيسة وأمنوا الطريق لبعضهم البعض حتى تمكن الجميع من الدخول إلى الكنيسة.
وبعد ساعتين من المعاناة تمكن المقاومون من الدخول للكنيسة،و كان عدد من المقاومين الفلسطينيين من بين الجرحى ، واضطر بعضهم ممن كانت أصابته في الاطراف كالمبعد جهاد جعارة الذي اصيب في قدمه أن يتخلي عن قدمه حتى لا يقوم جيش الاحتلال باعتقاله.
المبعدون جميعهم الآن داخل الكنيسة ولم يبقى أحد في الخارج من المقاومين الفلسطينيين الذين كانوا قرب البلدة القديمة والتي حاصرها الاحتلال بالكامل لتزيد المعاناة يوماً بعد يوم، لا دواء، لا إسعافات للجرحى، لا طعام، لا شراب، ولا شيء متوفر لديهم، كل مقومات الحياة الطبيعية انقطعت عن الكنيسة التي تقدر مساحتها ألف متر مربع.
حصار خانق ومحاولات اسرائيلية لاقتحام الكنيسة
وإزدادت الحالة سوء في ظل تشويه إعلامي اسرائيلي للمبعدين وطريقة دخولهم على اعتبار إنهم يقومون باحتجاز الرهبان كرهائن، في ظل نفى من رهبان الكنيسة الذين اعتبروا أنفسهم رهائن السلام وليس رهائن لدى المقاومين، متمنيين أن يتم إنهاء الحصار خلال ساعة أو ساعتين، لكن الواقع كان صاحب الكلمة الأولى والأخيرة.
اليوم الثاني شهد محاولة اسرائيلية لاقتحام الكنيسة أدى لاستشهاد قارع الأجراس في الكنيسة سمير سلمان على يد قناص احتلالي وكانت أول عملية اغتيال نفذت خلال عملية الحصار كاملة، أما اليوم الثالث شهد تقهقراً لقوات الاحتلالً حيث طلب الجيش من جهاد جعارة الاستسلام وتقديمهم العلاج له فكان الجواب: الموت بكرامة ولا الاستسلام، كما طلب بعض قادة السلطة الفلسطينية محاولة التفاوض علي إنهاء الحصار في ظل رفض اسرائيلي للمفاوضات، بعد ذلك ومع بدايات اليوم الرابع أصبح المقاومون في داخل الكنيسة يأخذون مواقعهم احتياطاً لاقتحام قوات الاحتلال الكنيسة بأكثر من طريقة في آن واحد, ونظموا الحراسات على فترات وذلك بأمر من الرئيس ياسر عرفات محذرهم من إطلاق النار إحتراماً للمكان المقدس المتواجدين داخله، حيث كان بإمكان المقاومين قتل العديد من الجنود الاسرائيليين بأسلحتهم الرشاشة والقناصة التي كانوا يحملونها داخل الكنيسة حماية لأنفسهم.
توالت محاولات جيش الاحتلال اقتحام الكنيسة وكانت تسمع من وقت لآخر اصوات الانفجارات والاشتباكات مع المقاومين الفلسطينيين وتمكن عدد من المقاومين بالاستيلاء على بعض الذخيرة والقنابل اليدوية وسترات واقية حيث كانت القنابل من صنع أمريكي، وكان لهذا المشهد أثراً بالغاً في نفوس قادة الجيش الاسرائيلي الذين أمروا بإضرام النار داخل الكنيسة لتندلع النيران في ثلاث غرف للرهبان وأثناء محاولة المواطنين المحتجزين مع المقاومين داخل الكنيسة إطفاء النار داخل الغرف، قام قناص احتلالي باستهداف أحد أفراد الشرطة بطلقة نارية في وجهه استشهد على أثرها فوراً، ليبقى الشهيد داخل الكنيسة في احد الصناديق التي قام بصناعتها الرهبان، حيث كانت تستخدم قوات الاحتلال قذائف الانيرجا والرصاص المتفجر ضد كل من يتحرك داخل الكنيسة للبحث عن الطعام أو جمع أوراق الليمون.
استياء مسيحي ودولي من عملية الحصار
الوضع يوماً بعد آخر أخذ يزداد سوءا في ظل تعنت إسرائيلي لإجراء المفاوضات وقيام بعض شبكات الإعلام بإصدار أشرطة فيديو وثائقية تشوه سمعة الفلسطينيين داخل الكنيسة وتقوم إذاعات التلفزة الأمريكية والأجنبية ببثها على اعتبار بأن المقاومين الفلسطينيين يحتجزون الرهبان ويقومون بإلقاء القنابل وإطلاق النار داخل الكنيسة، والرهبان مستاؤون من هذه الدعاية الإسرائيلية.
زاد التأثر المسيحي بالقضية في ظل هبوط سياسي فلسطيني واسرائيلي لإنهاء الحصار، فلم يكن من رجال السلام الأجانب الا التحرك ومحاولة الدخول للكنيسة لمساعدة الفلسطينيين إلا أن احد جنود الاحتلال قام بإطلاق النار عليهم فأصيب عدد منهم.
حلول فاشلة
الرئيس الفلسطيني تحت الحصار، كولن باول وزير الخارجية الأمريكية في ذاك الوقت كان يزور المنطقة ويجتمع مع عدد من رؤساء الكنائس في القدس لحل قضية الكنيسة، وقام باول بمتابعة أمر حصار الرئيس ياسر عرفات وما يحدث في رام الله من قتل وتدمير للمنازل، اهتمام أمريكي بما يحصل في المقاطعة، حصار الكنيسة أصبح أمراً جانبياً للعالم.
قوات الاحتلال المتواجدة حول الكنيسة بدأت تأخذ جانباً آخر من انهاء الحصار، وذلك عبر محاولاتها الاتفاق مباشرة مع المبعدين، حيث قام الحاكم العسكري الاسرائيلي لمدينة بيت لحم بالاتصال بالمبعد "إبراهيم عبيات", إلا أنا عبيات رفض وأغلق الهاتف في وجهه، فلم يكن أمام الاحتلال إلا إن يأتوا بأمه وأخيه وأخته وذلك في دباباتهم ورغماً عن أنوفهم، وذلك للضغط على إبراهيم لتسليم نفسه وتسليم جميع من معه من المقاومين, فرفضت أم إبراهيم عبيات أن تطلب ذلك من فلذة كبدها، مقسمة بالله لن تفعل ذلك الأمر لو قاموا بقتلها، كما قاموا بجلب أهل بعض المقاومين المتواجدين بالداخل إلا أنه كان الموقف ذاته وكانت الضربة القاسية في وجه الاحتلال.
الفاتيكان بدأ يتحسس موقفه الصعب وبدأ بالتوسط لدى الإسرائيليين والفلسطينيين لإنهاء الحصار في أقرب وقت ممكن، المبعدون رفضوا أن يكون أي شخص من قيادة السلطة الفلسطينية مفاوضاً عنهم سوى (الختيار) أبو عمار، بدأ الأمريكيون والبريطانيون والمفاوضون من جانب الفاتيكان بالدخول في المفاوضات ما بين شارون والرئيس عرفات، إلا أن بعض قادة السلطة أخذوا مهام الرئيس الفلسطيني للتفاوض مع أطراف المفاوضات وذلك بموافقة الإسرائيليين.
بدأت المفاوضات بين المفاوضين وكان أول طلب إسرائيلي قائمة بأسماء المطلوبين داخل الكنيسة، فرفض الفلسطينيون طلب طاقم المفاوضات الاسرائيلي، فكان الرد من قبلهم لا نريد مفاوضات وسنفرض قوتنا لإنهاء العملية.
قوات الاحتلال زادت من حصارها على الكنيسة وأصبحت تقوم في كل ليلة بتحليق مكثف لطائراتها فوق الكنيسة وجلب كلاب مدربة للنباح مع إطلاق نار، وبعد يومين من هذه العملية استشهد عصام جوابرة أحد المطلوبين لقوات الاحتلال ومن قادة الأقصى في العملية.
حلول جديدة
في اليوم الرابع والعشرين من الحصار شهد تقدماً طفيفاً لعملية الحصار حيث جلس المتفاوضون مرة أخرى، وكان للجانب الإسرائيلي شرطاً بإخراج جثتين وتسعة صبية إلى خارج الكنيسة، وتمت الصفقة الأولى لكن قوات الاحتلال قامت باعتقال احد الصبية بتهمة شبهات أمنية فكان احتجاج من المفاوضين الفلسطينيين لكن دون جدوى.
المفاوضات بدأت تسير مرة أخرى في ظل تجاوب إسرائيلي وتقهقر داخلي لحل الحصار بأسرع ما يمكن، المفاوضون الاسرائيليون أصدروا قائمة بسبعة أسماء اعتبرتهم اسرائيل من أخطر المطلوبين لديها، فكان رفض فلسطيني لتسليم أي شخص أو إبعادهم إلا لغزة على اعتبار أن غزة من حدود الوطن الفلسطيني.
هذه الأمور كلها كانت في ظل غياب عما يحدث مع المبعدين في الداخل، لا ماء، لا شراب، لا طعام، ماذا يفعلون وكيف يصمدون؟ يقول أحد المبعدين: "لقد كنا نلتقط الحشائش الأخضر وكنا نطبخه كالشوربة, ولكن شوربة مع الملح والحشائش الأخضر هذه الوجبة كنا نأكلها كل أربعة وعشرين ساعة كاسة واحد لكل شخص"، وأضاف عندما أكله بعض المحاصرين قالوا بأنه علقم وقرروا عدم الأكل بتاتاً، كما كان الماء منقطعاً وأي شخص يتوجه لجلب الماء يعود شهيدا أو جريحا بقنص الجنود المتمركزين حول الكنيسة.
صفقة جديدة لإنهاء الحصار
الغذاء مقابل الرؤوس، وقائمة بأسماء المحاصرين، صفقة إسرائيلية جديدة في ظل رفض فلسطيني لها، كان الهدف من ورائها معرفة من خارج الكنيسة من المطلوبين.
نعود للمقاطعة وبداية الحلول لإنهاء حصار الرئيس الفلسطيني بعد رعاية أمريكية وبريطانية لاتفاق مع الجانب الإسرائيلي والفلسطيني لحل قضية المطلوبين داخل المقاطعة، الكنيسة والمقاطعة، أمران متناسقان لم يكن لقضية أن تنتحل دون الأخرى في الحسابات الفلسطينية.
بعد حل جزئي لقضية المقاطعة وانسحاب قوات الاحتلال إلي خارج مقر المقاطعة رفض الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أن يتكلم بما حدث داخل الكنيسة قائلاً: "ما بديش أتكلم عن الانفجارات والحرايق اللي حصلت عندي هنا لأنه مش مهم اللي عندي أنا مهم عندي كنيسة المهد.. أنا آسف".
استقالة طاقم المفاوضات الفلسطيني
المفاوضون الفلسطينيون الذين كلفوا من الرئيس الفلسطيني بالمفاوضات توجهوا بالغذاء والدواء استعدادا لدخول الكنيسة, إلا أن مسؤول المخابرات الاسرائيلية في الضفة الغربية رفض ذلك بعد رفض فلسطيني بالدخول دون طعام وتسليم قائمة بالأسماء الموجودة داخل الكنيسة، وعند رفض الفلسطينيون ذلك أعطى رئيس المخابرات الاسرائيلية في الضفة صفعة للمفاوضيين عندما قال لهم بأن محمد رشيد يقوم في هذه اللحظات بالاجتماع مع الجانب الإسرائيلي والأمريكي لحل قضية الكنيسة، مما آثار غضب طاقم المفاوضات الفلسطيني وتقديم الاستقالة.
بعد استقالة المفاوضين بدأ الرئيس الفلسطيني بالاتصال مع عدد من القادة العرب والفلسطينيين لاستكمال المفاوضات والجواب رفض الاقتراح.
تهديدات للمبعدين بحل القضية أو تحمل مسؤولياتهم اتجاه موقفهم
بعد ساعات هدد عدد من قادة رجال الشرطة الأمريكيين إبراهيم عبيات بإنهاء مسألة الحصار حتى لو تم تسليم أنفسهم لجيش الاحتلال، معللين ذلك بأنه مشكلتهم وبأنهم هم المطلوبون وعليهم أن ينهوا القصة بأسرع وقت.
شارون يستعد لزيارة واشنطن، واشنطن تزيد من قنواتها السرية للتفاوض وحل القضية قبل زيارة شارون وكان ضغط أمريكي على الإسرائيليين، وبدأت القضية تأخذ جانب الحل وبدأ محمد رشيد يقوم بمفاوضات مع الجانب الاسرائيلي وبدأت أولى الخطوات بتسليم قائمة بأسماء المتواجدين داخل الكنيسة بعد استلام عماد النتشة مدير الارتباط المدني للقائمة سراً من باب الكنيسة.
القائمة أصبحت في أيدي الأمريكيين والأوربيين والإسرائيليين وكان محمد رشيد يمثل الجانب الفلسطيني بدأت المفاوضات تأخذ مسارها بقوة، توجه العقيد ربحي عرفات مع ميغيل موراتينوس المبعوث الاوروبي لعملية السلام إلى بيت لحم والقدس لاستكمال المفاوضات بجانب محمد رشيد وذلك بأمر من ياسر عرفات.
بدأت المفاوضات مع المبعدين على إبعاد سبعة منهم، فقد استشهد احد السبعة وبقي ستة آخرون، لكن المفاجأة كانت بأن 39 فلسطينياً هم من أصبحوا تحت خطر الإبعاد، بموافقة رسمية منهم بناءً على طلب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي لاقى ضغوطات دولية للتدخل في المفاوضات بعد اختفاء زعيم المفاوضات محمد رشيد والذي اقترح إبعادهم وقدم لائحة أسمائهم.
صلاح التعمري احد كبار المفاوضين في هذه العملية اتهم محمد رشيد بالمسؤولية الأولى والأخيرة عن عملية إبعاد المقاومين، مؤكداً أنه لم يعلم ما يجري على صعيد المفاوضات في القدس.
أصبح المطلب الأول والأخير في القضية بأن يقوم المبعدون بتوديع أهلهم وذويهم، لكن الرفض الإسرائيلي كان الجواب.
لحظات الإبعاد
بدأ الجميع يخرج من الكنيسة ويقبّل الأرض ويرفع يدي العزة والشموخ مودعاً أهله وذويه الذين لم يبعدوا سوى مئات الأمتار وهم يقفون يشاهدون أبناءهم يخرجون بعزة النفس والكرامة مسافرين إلى غزة وبلاد متفرقة أخرى على موعد أن يعودوا بعد عام لبيت لحم التي احتضنتهم منذ الوهلة الأولى إلا أن قضيتهم أصبحت كقضية اللاجئين تأخذ منعطف النسيان لدى الفلسطينيين ولدى الإسرائيليين، والآن مضى أكثر من ثلاثة أعوام وحنين الشوق لوطنهم ولأرضهم ما زال عنوانهم الأكبر.