صورة لواقع الثقافة الفلسطينيّة في يافا
18 ديسمبر, 2020 08:13 صباحاًفتح ميديا - يافا:
تعيش مدينة يافا الساحليّة حالة استعماريّة مستمرّة منذ مئة عام، أي منذ احتلال البريطانيّين لها حتّى اليوم، حيث تعيش في ظلّ الحكم الإسرائيليّ واقعًا مليئًا بالتحدّيات الّتي يواجهها أهلها الباقون فيها، وذلك في مختلف المجالات، اجتماعيّة وسياسيّة وتربويّة وثقافيّة.
كان نجم يافا الثقافيّ صاعدًا قبل نكبة عام 1948، ومثّلت الحيّز الثقافيّ والتجاريّ والرياضيّ الأهمّ لفلسطين في ذلك الوقت. اشتهرت مسارحها ودور السينما فيها، مثل «سينما الحمراء» و«سينما رشيد» و«سينما نبيل»، وزارها كبار الفنّانين والأدباء العرب، ولا سيّما المصريّون، منهم محمّد مهدي الجواهري وعبد الوهّاب وأمّ كلثوم وسيّد درويش، وغيرهم. كما اتّخذ الفنّانون والأدباء العرب يافا محطّة تجوالاتهم وعروضهم ومحاضراتهم المتنقّلة في المنطقة العربيّة، وتحديدًا في فضاء بلاد الشام والعراق ومصر.
كما كانت يافا مركزًا من مراكز الحركة الوطنيّة ونضالها، وقد رفضت الاستسلام خلال معارك النكبة، وقاومت حتّى آخر رمق، قبل أن تحتلّها المجموعات المسلّحة اليهوديّة، الّتي كانت متفوّقة بالعدد والعتاد على الفلسطينيّين آنذاك.
الواقع القاسي الّذي يعيشه أهل يافا الباقون، ناتج عن محو كيان الفلسطينيّ وحيّزه العامّ، حيث تهويد المدينة يتمّ بكثافة عمرانيًّا وسياحيًّا وتجاريًّا... إلخ، بالإضافة إلى تحكّم إسرائيل بتفاصيل وأنماط حياة الفلسطينيّين فيها تمامًا، من خلال الهيمنة على مؤسّساتهم، ومدارسهم، وكلّ مبادرة جماعيّة ترفض الصبغة الصهيونيّة.
حتّى لو تأقلم البعض من أهالي يافا الفلسطينيّين مع هذا الواقع المفروض، فإنّهم في نهاية الأمر واجهوا، ولا يزالون، الوجه البشع لإسرائيل، الّذي يعمل على تشويه هويّتهم وتذويبها، وإغراقهم بالهموم اليوميّة، وإعاقة ارتباطهم بالقضايا الجماعيّة الّتي تخصّ شعبهم، ويبقى بصيص من الأمل موجودًا لدى شريحة الشبيبة والشباب فيها، الّذين يرفض كثيرٌ منهم «السباحة مع التيّار»، وينظرون إلى الواقع بشكل مختلف، مستمدّين طاقاتهم من عدالة قضيّتهم وقضيّة أمّهاتهم وآبائهم وجدّاتهم وأجدادهم.
يعتمد هؤلاء الصبايا والشباب على مؤسّسات ناشطة في المدينة، مثل «مسرح السرايا العربيّ» في يافا القديمة، و«حركة الشبيبة اليافيّة»، وجزء منهم أصبحوا أعضاء في الهيئات العامّة والإداريّة في المؤسّستين، بالتعاون مع الأعضاء والناشطين القدامى الّذين ابتدؤوا الطريق قبلهم بسنوات عدّة.
«مسرح السرايا العربيّ – يافا»
تأسّس «مسرح السرايا العربيّ» عام 1998، بمبادرة من فنّانين فلسطينيّين من يافا وخارجها، بهدف الاستقرار في العمل المسرحيّ اليافيّ، الّذي لم يحصل حتّى تلك السنة على مقرّ ثابت؛ إذ كان الممثّلون يتنقّلون من بيت إلى بيت، من أجل بدء المشوار المسرحيّ، وبناء نشاط جديد في يافا.
بعد أن ثبّت مكانه في الساحة الفنّيّة في أراضي 48، بادر «مسرح السرايا العربيّ - يافا»، في السنوات الأخيرة، بادر إلى إدخال صبغة ثقافيّة جديدة، علاوة على العمل المسرحيّ الثابت والمتنوّع (مسرح أطفال وعائلات). وبقيادة صبايا وشباب يملكون الوعي الحرّ. وقد استطاع المسرح أن يشقّ طريقه نحو تحقيق هذا المسار الجديد القديم، لدى المجتمع اليافيّ المتعطّش للفنّ والثقافة بشكل ملحوظ؛ إذ تزايد الإقبال على الأمسيات الفنّيّة والموسيقيّة الّتي بادر إلى تنظيمها، إضافة إلى المسرحيّات المتعدّدة الجارية خلال أيّام السنة، المتوجّهة إلى جميع الشرائح العمريّة. فعلى سبيل المثال، واظب المسرح على تنظيم أمسيات شعريّة، وتوقيع كتب لشعراء وكتّاب فلسطينيّين من يافا وخارجها، ودأب على استضافة مختلف الفنّانين الفلسطينيّين من مختلف المجالات، كالمصوّرين والرسّامين والعازفين والمطربين، وعادت نوعًا ما الحياة الثقافيّة يافا، ونال المسرح ثقة شريحة واسعة من الجمهور المتذوّق والمتعطّش للفنون، الّتي حُرِمَ منها على مدار سنوات؛ إذ تغيّبت عن الساحة المحلّيّة مؤسّسات ثقافيّة وفنّيّة تواظب على الإنتاج.
من نشاطات «مسرح السرايا العربيّ - يافا»
كلّ ذلك حصل رغم التحدّيات الّتي يفرضها حكم إسرائيليّ خليط بين المدنيّ والأمنيّ، ينحاز تمامًا إلى يهوديّة الدولة وترسيخ مفهوم الاستعلاء الصهيونيّ في جميع مجالات الحياة، ولا سيّما الفنّ والثقافة؛ إذ يخضع الفلسطينيّون، مثلًا، لرقابة على الإنتاجات المسرحيّة ذات المضمون السياسيّ المناهض للصهيونيّة، وملاحقة المؤسّسات التّي تعمد إلى ذلك. ومن التحدّيات أيضًا الدعم الماليّ المحدود، الّذي يحظى به «مسرح السرايا العربيّ» ومسارح عربيّة أخرى في أراضي 48، مقارنةً بمسارح عبريّة صغيرة كانت أو كبيرة؛ فميزانيّة المسارح العبريّة تفوق ميزانيّة المسارح العربيّة أضعافًا مضاعفة! هذا الأمر يمنع إدارة المسرح من توظيف عدد كافٍ من الموظّفين والمهنيّين؛ إذ لا تكفي الميزانيّة السنويّة لأكثر من وظيفة ونصف الوظيفة، تنقسم على ثلاثة موظّفين وطواقم تقنيّة يعملون وكلاء مستقلّين.
«حركة الشبيبة اليافيّة»
تأسّست «حركة الشبيبة اليافيّة» في نيسان (أبريل) من عام 2010، بمبادرة بضعة شباب وصبايا من يافا، بهدف بناء حركة وطنيّة غير حزبيّة وغير طائفيّة، لتحمل أملًا جديدًا للأجيال الشابّة الّتي طمحت إلى إصلاح الوضع العامّ في بلدتها المنكوبة. بعد بضعة أشهر أصبح عدد أعضائها ما يقارب الخمسين عضوًا وعضوة من يافا ومن خارجها أيضًا؛ إذ استقطبت الطلّاب الجامعيّين الّذين اندمجوا في هذه الحركة الوطنيّة والشبابيّة، ومنذ تلك الفترة تبلورت أهداف الحركة، وتمخّض عنها خمسة أهداف، وهي:
1- تعزيز الهويّة العربيّة الفلسطينيّة. 2- تعزيز اللغة العربيّة؛ لأنّ يافا اليوم حيّز مختلط تسيطر عليه اللغة العبريّة في الحيّز العامّ. 3- تنمية روح التطوّع في بلد بحاجة ماسّة إلى متطوّعات ومتطوّعين لمشاريع عدّة. 4- العمل على تطبيق المساواة بين المرأة والرجل في المجتمع العربيّ في يافا. 5- العمل على التوجيه المهنيّ والدراسيّ.
عملت الحركة لسنوات عديدة على تطبيق هذه الأهداف، واستطاعت أن تحقّق - ولو جزئيًّا – أغلبها. ركّزت الحركة على الهدف الخامس الّذي لم يتحقّق في بداية الطريق، ألا وهو التوجيه المهنيّ والدراسيّ للطلّاب العرب، وخاصّة طلّاب المدارس الحكوميّة الّتي تعاني من مشاكل عدّة، إحداها عدم توجيه الطلّاب خلال الفترة الثانويّة، وهذا ما حقّقته «حركة الشبيبة اليافيّة» لبضع سنوات، واستطاعت أن ترافق البعض من طلّاب الثانويّات، وواصلت معهم المسار التعليميّ ما قبل المرحلة الجامعيّة، مثل «دورة البسيخومتري» الملزمة لكلّ شخص يودّ التعلّم في الجامعات الإسرائيليّة.
لكن لأسباب عديدة، أصبح المشروع المذكور أعلاه بحاجة إلى تفرّغ موظّفين وكوادر، لاستقطاب طلّاب المدارس الفلسطينيّين في يافا، وهو الأمر غير المتاح بسبب عدم خبرة أعضاء الحركة وعدم تفرّغهم لمشاريع ضخمة مثل «مشروع التوجيه المهنيّ». لذلك، تجري حاليًّا دراسة بناء مشروع مشابه لذلك المشروع، لكن بطريقة أخرى ومدروسة للعمق.
في الفترة الأخيرة، وبالتحديد قبل بضعة أشهر، بادرت «حركة الشبيبة اليافيّة» إلى تنظيم مشروع مميّز، ألا وهو إقامة بثّ مسجّل يُعرف بـ «البودكاست». نال هذا المشروع نجاحًا غير متوقّع، إذ نُظِّمَت برامج متعدّدة تتحدّث عن مواضيع مختلفة، وحظي بأعداد كبيرة من المتابعين من الوطن العربيّ وسائر دول العالم، وأصبح بودكاست «حركة الشبيبة اليافيّة» منتشرًا في صفحات التواصل الاجتماعيّ المختلفة، إضافة إلى التنزيلات العديدة الّتي تكون من قِبَل المستمعين من كلّ أنحاء العالم؛ إذ من السهل تنزيله عبر التطبيقات المختلفة والمنتشرة في العالم الافتراضيّ.
يجري بثّ البودكاست من مكاتب الجمعيّة في يافا، وتتوزّع البرامج المختلفة على أيّام الأسبوع، فثمّة برنامج «الميدان» من تقديم الشابّ والناشط عبد أبو شحادة، الّذي يستضيف من خلال برنامجه شخصيّات يافيّة وفلسطينيّة، تتحدّث في أحداث الساعة وفي الوضع الراهن في الوطن العربيّ بشكل عامّ، وفلسطين بشكل خاصّ، وكذلك برنامج «شبيبة كاست» من تقديم طالب الصفّ الثاني عشر في «المدرسة الأرثوذوكسيّة – يافا» محمّد الهاني، الّذي يتحدّث في الأمور الخاصّة بطلّاب الثانويّات في يافا. ويضمّ البودكاست برنامج «دي بريدج» في اللغة الإنجليزيّة، من تقديم الشابّة إيفون سابا، ويتطرّق إلى الموسيقى العالميّة، فضلًا على برنامج «ثقافة» من تقديم محمود أبو عريشة، المدير الإداريّ لـ «مسرح السرايا العربيّ»، وإشراق حجّو، عضوة الهيئة الإداريّة للمسرح، وهو البرنامج الّذي يتطرّق إلى الأخبار الثقافيّة الّتي تجري في يافا، ويستضيف الفنّانين اليافيّين للحديث عن مشاريعهم العديدة.
إضافة إلى ذلك، ثمّة برنامج «طلبة كاست»، من تقديم الطالبة الجامعيّة الناشطة الشابّة يارا غرابلي، الّتي تستضيف طلّابًا وطالبات جامعيّين فلسطينيّين، مرّوا بالتجربة الأكاديميّة والتحدّيات الناتجة عن كونهم فلسطينيّين في جامعات إسرائيليّة. أمّا طالب الصفّ الحادي عشر في «مدرسة تيراسنطا يافا»، حسين أبو شحادة، فيقدّم برنامج «أوفْ سايد»، وتجري فيه التحليلات والمقابلات حول كرة القدم الأوروبّيّة. ثمّ برنامج «دردشة أهل»، من تقديم منار وعمر سكّر من يافا، ويتداول البرنامج قضايا اجتماعيّة وعائليّة تهمّ أهل يافا.
وعلى الصعيد التاريخيّ، يقدّم الناشط رامي صايغ [المحرّر: كاتب المقالة] برنامج «الماضي الحاضر»، يستضيف فيه شخصيّات من يافا، ليناقشوا الكتب التاريخيّة الّتي تربط الماضي بالحاضر؛ فعلى سبيل المثال جرى الحديث عن كتاب بلال شلش «يافا دمٌ على حجر»، مع الأستاذ يوسف عصفور، وتطرّق الحديث حول المقاومة الّتي كانت في مدينة يافا، ابتداءً من شهر شباط (فبراير) عام 1948، إلى سقوط المدينة في أيّار (مايو).
لكن، رغم النجاح الّذي تشهده برامج بودكاست «حركة الشبيبة اليافيّة»، ما زالت البرامج في أوّل الطريق، ولمّا تتثبّت وتترسّخ بعد، وينقص هذا المشروع في الوقت الحاليّ الدعم المادّيّ لضمان استمراريّته.
لا شكّ في أنّ الحركة الثقافيّة في مدينة يافا تنتعش نسبيًّا مقارنة مع سنوات سابقة، بفضل الحراك الشبابيّ من بنات المدينة وأبنائها، الغيورات والغيورين على مصلحة المدينة ومستقبلها، الّتي كانت صرحًا شامخًا قبل النكبة وتدميرها ثمّ تهويد ما تبقى منها. وهذه الأمثلة دليل على عزيمة جيل مثابر وطموح ومبادر، يسعى إلى تحقيق حلمه، وحلم العديد من أبناء مجتمعه القابع تحت السيطرة الصهيونيّة المدنيّة والأمنيّة، الّتي تحاول طمس الهويّة والثقافة العربيّة الفلسطينيّة، لكن إصرار الجيل الشابّ الفلسطينيّ بعزيمته ما زال قائمًا وصامدًا، رغم كلّ التحدّيات.