عنونت "هآرتس" عام 2012 إن لم تخني الذاكرة - أو ربما قبل ذلك بسنوات معدودة - في عنوان كبير لها "لم يعد لدينا مطلوبون" في الضفة. التنسيق الأمني والجدار وحصار غزة أفرغا قوائم المطلوبين من أسمائها. طبعا هذا كلام لا يقال لشعب لا يحترف المقاومة بل يمارسها كحياة فرضت عليه أو كنضال من أجل حياة تمنع منه. المقاومون لا ينتهون بل يتبدلون. هذا التصريح حول "قوائم المطلوبين" التي كانت تعدّ بالمئات حينها، أرفق منذ تلك اللحظة تقريبا بتصريحات ذات صلة نسمعها بعد كل عملية اقتحام وغزو وقصف، بأنه "لا بنك أهداف" للجيش وبالتالي لا مجال لصورة انتصار قاطعة.
"لقد تسببنا بأضرار بالغة للمخيم"، "كارثة جديدة: هكذا تبدو جنين بعد العمليات العسكرية لحملة ‘بايت فغان‘"، تمحورت التصريحات حول الأضرار وحول مدى كارثية العملية وليس حول الأهداف التي حققت. التصريح الأول هو ليس إذا تصريحًا لجندي يعترف ويدلي بشهادته أمام لجنة تحقيق دولية، بل هو تصريح تفاخر به المستوى الرسمي (المملختي) للجيش، والتصريح الثاني هو ليس عنوان تقرير في موقع "عرب 48" يريد فضح ما حدث في جنين، بل هو عنوان موقع معاريف الإسرائيلي. "كارثة" و"أضرار بالغة"، اعتدناها كمفردات فلسطينية وحقوقية دولية، الآن هي مفردات إسرائيلية، اعتدناها كمفردات إدانة، والآن هي مفردات افتخار.
هذا الاستعراض الجماهيري كاحتفاء بالفتك دون أهداف وعبر وسائل الإعلام الإسرائيلية وكجزء من تغطية إعلامية "مدنيّة"، لا يدل فقط على اعتماد الجيش له بل يدل كذلك، وربما بالأساس، على أن الجمهور الإسرائيلي يتطلب ذلك. قلنا إن مظاهرات الليبراليين تتجاهل جنين؟ أخطأنا، المظاهرات لم تتجاهل جنين. المتظاهرون أكملوا مظاهراتهم النبيلة في الشوارع بمشاهدة بيتية هادئة لمشاهد خراب جنين. وإذا كان هنالك حاجة من قبل لبنك أهداف، فلا حاجة الآن، التخريب والدمار والتشريد هم الهدف، وإذا كان هنالك في السابق خلاف داخل المجتمع الإسرائيلي على الأهداف فإنه لا خلاف داخله الآن على الدمار.
هنالك العديد من المؤشرات التي تجعلنا نعتقد أن المجتمع الإسرائيلي هو من المجتمعات القليلة التي تتدخل في مجرى العمليات العسكرية ودائما باتجاه واحد: المطالبة بمزيد من التدمير والضحايا: "هل تنفع هذه العمليات التي تجرى بالإبرة - أي العينية والمحدودة جدا - ألا نحتاج لإدخال الدبابات للمخيم؟"، سألت المذيعة مسؤولا عسكريا قبل يومين. "لماذا لا ندخل ونسوّي بالأرض أحياءهم؟"، سأل المذيع خلال عدوان سابق على غزة. قد يعود سبب التفاعل العسكراتي بين المجتمع والجيش في إسرائيل إلى عدة أسباب، منها أسباب تتعلق بطبيعة نمط القتال غير الحربي كما يشير لذلك بعض الباحثين. فهذا النمط الذي يعتمد على مواجهات بين الجيش وبين شعب أعزل، يحتاج لشرعيات اجتماعية أكثر مما تحتاجها الحرب محددة التوقيت والأهداف والتي عادة ما تكون بعيدة عن التغطية والاهتمام والرأي العام والتفاعل الشعبي. لم يستأنف المجتمع الإسرائيلي قط على شرعية القوة لكنه كثيرا ما أستأنف على جدواها، تم حل معضلة الشرعية هذه عن طريق تحول نوعي تحصل به القوة على شرعية لذاتها وليس لجدواها، أي عرض القوة كهدف ذاتها، على شاكلة "أضرار بالغة"، يحصل ذلك في خضم لحظة يصفها المجتمع الإسرائيلي بأنها لحظة تاريخية مكوِّنة لمستقبله ولمستقبل دولته، مظاهرات الدي-مق-راطية.
لم يكن الجهر بمصطلح الفتك في 2019 بداية عملية الإفصاح عن شرعية القتل والعنف بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي، سبقه لذلك بحوالي العقد، وفق يورام بيري، شرعية الحديث عن العسكراتية (ميليتاريزم) نفسها وذلك بعد أن كانت ظاهرة يتم إنكارها واستنكارها إسرائيليا. يرى بيري في "العسكراتية" عاملا مركزيا في هندسة ملامح المجتمع الإسرائيلي كونها تمثل خيارا سياسيا ومجتمعيا أكثر من كونها تمثل اضطرارا. العسكراتية هنا وفق الباحث هي عملية تفضيل استعمال القوة حتى بوجود بدائل، تمجيد القوة واعتبارها جزءا من ثقافة وقيم أخلاقية، وحتى جزءا من هوية. مرة أخرى، القوة هنا تستخدم بغض النظر عن نجاعتها، هي ليست وسيلة إنما هي طريقة في الحياة وفي تأكيد الذات وفي الافتخار بالذات، العدوان بالنسبة للإسرائيلي "لم يعد يشخَّص كواقع مفروض من الخارج بل كاحتياج لبطولة جسدية وكشغف لاستعمال القوة"، وفق ياغيل ليفي، أحد الباحثين المختصين بالعلاقة بين الجيش والمجتمع والسياسة. هذا التمجيد للقوة هو الذي يمكن من استبدال بنك الأهداف المحددة. واضحة العلاقة المعلنة المتعلقة بـ"أمن الإسرائيليين" بمشاهد خراب وتدمير وأضرار غير مرتبطة بـ"الأمن"، "الوسائل التي يتخذها الجيش وليس المنجزات هي التي تصبح مهمة، أي الفتك (القتل والدمار) نفسه وليس الأهداف العسكرية للفتك".
مخيم جنين يهدد إسرائيل لأنه يمنعها من استخدام القوة كما تريد، وإسرائيل تحاول أن تحدد الآن خارطة الحيز الفلسطيني الذي يمنعها من استخدام قوتها كما تريدها، مخيم جنين ونابلس تقعان في مركز هذا الحيز. خارطة الضفة الآن هي ليست ما يريدون ضمه وما لا يريدون، فهذا يؤجج المظاهرات، ناهيك أن الضم يحدث على أرض الواقع بكل الأحوال، وهي ليست مناطق A وB وC، بل هي خارطة درجات الاستباحة، ما هو مباح لفرط القوة الإسرائيلية وما هو ليس مباحا. إسرائيل تبحث الآن عن شكل آخر من السيادة، تقوي الجامع الإسرائيلي، لكي توازن عندهم واقع التصدعات التي يصدعون بها رأسنا، هذا لا ينفي أن تفرز السياسات القادمة قطاعا هامشيا جدا جدا يعيد التفكير بشكل جذري في العلاقة بين القوة ضد الفلسطينيين وبين المستقبل الذي يريدون تجنبه. السيادة المهيمنة الآن إسرائيليا، في مرحلة العنفوان الليبرالي، هي ليست سيادة سموتريتش في ضم الضفة، بل هي سيادة الجيش "المملختي" في ممارسة القوة المفرطة.