الخِطاب ولعبة الانحياز في الإعلام
تاريخ النشر : 19 يونيو, 2023 08:41 صباحاً

في الوقت الذي نتحدّث فيه عن عملية التأثر والتأثير، والاتصال والتواصل، والحوار والتقبل، أو الرفض، البناء أو الهدم، والنصوص المفتوحة أو المغلقة- إذن- نحن نتحدث عن فن الخطاب ومهارته. هل أحببت يومًا أن تكون خطابيًا مؤثرًا، قادرًا على مخاطبة الجماهير والتأثير في أنماطهم الثقافية والأيدولوجية، أو فاعلًا تفاعليًا في القضايا التي يفيض بها مجتمعك سواء أكانت: فكريًة لثقافيًة واجتماعيًة وسياسيًة؟ أليس بمقدورك أن تكون خطابيًا موضوعيًا حياديًا دون تلك الموانع الفكرية أو المادية أو البيروقراطية المتحجرة؟ هل ذلك من الصعوبة في مكان وزمان وثقافة ما، أن تتعلم مهارة الخطاب؟

نعم، نحن نتحدث عن مهارة الخطاب الذي يولّد ثقافة الحوار وتقبل الآخر، والفضاء الممتد إنسانيًا وثقافيًا وفكريًا في حلقة متصلة بين التأثر والتأثير، بعيدا عن الحياديًة والجمود والانحياز. هذا يدفعنا للحديث عن لعبة الانحياز في اللغة، وسلطة اللغة المسلّطة على رقاب المتلقين، وهيمنة الأفكار والرَموز والدلالات، والتلاعب بالألفاظ والمصطلحات، ومرواغة الحديث، مع أنها مهارة مطلوبة في الخطاب، لكن إياك أن تقع في محاذيرها وشباكها، هل فكرت في ماهيًة تلك المحاذير؟ سأترك الإجابة لك عزيزي القارئ.

فالخطاب؛ تلك السلطة اللغوية والمعرفية والمهاريّة التي تترجم القدرات لصاحبها، الخطاب يتسع لدوائر تتسع لثلاثة: " مرسل، ومتلقٍ، ورسالة"، وهو اتقان مهارة الكتابة، والحوار، والفهم القرائي، والإلقاء والخطاب الشفوي، والمكتوب، بمعنى أن تكون خطابيًا محلقّا في فضاء الأفكار، بحيث تجذب المتلقين، وتوجّه لهم رسالة تفاعليّة تشاركيّة، توحِي بالإيجاب أو القبول ، البناء أو الهدم، التحرك والثورة، ثم التغيير. كل ذلك في نظرية مشروطة، يبني المتلقي فيها بناءً جديدًا، وخطابًا آخر في نظرية تقبل الآخر، يكتب كتابة على الكتابة، ليمتد سماء الخطاب والكتابة والتأليف والفكر في منظومة فكريّة ممتدة.

الخطاب الناجح المؤثر هو ذلك التواصليّ؛ الذي ينبني في لغته وفكره على الثنائيّة لا الأحاديّة، المتعدد الوسائط لا المتحجّر المتجمّد، الخطاب المفتوح لا المغلق، ألا تحبّ مشاهدة دراما سينمائية نهايتها مفتوحة؟ ما زالت فيها الأميرة الحزينة تشرع النافذة، تتنظر فارسها وبطلها، تسمع صهيل خيله ولكنه لم يأت بعد. فالخطاب " باعتباره مقولة الكاتب- أو أقاويله بتعبير الفلاسفة العرب القدماء- هو بناء من الأفكار إذا تعلق الأمر بوجهة نظر يعبر عنها تعبيرا استدلاليا، وإلا فهو أحاسيس ومشاعر، فن أو شعر، يحمل وجهة نظر، أو هو هذه الوجهة المصوغة في بناء استدلاليّ، أي بشكل مقدمات ونتائج، كما هو الشأن في بناء المنزل"[1] ( الجابري، الخطاب العربيّ المعاصر، 1994).

والخطاب مكوّن لغوي، فاللغة ذلك الكائن الاجتماعي، الصديق لك، ولكي تُحسن صداقتها، عليك أن تقرأ وأكثر، أن تكتب وأكثر، أن تتحدث بها مرارا وتكرارا، ولكن ما يعنيه الخطاب –هنا- لعبة الانحياز في الإعلام، المراوغة في اللغة، والتلاعب بالألفاظ والأفكار والدالّ والمدلول.

الانحياز :

نعم، نحن بصدد الانحياز في لغة الخطاب، وعدم الحياد، والتباس المعنى، وفكّ الرموز، وأحادية الفكر، وحينها يفقد وعاء اللغة مبادئ المساواة والحريات والمواطنة، وينبني على الإقصاء، والتبعية، والتحيز والانحياز، وتتحول المعرفة إلى" سفسطة"، وسلم الأخلاق إلى" دروشة"، والقيم إلى فلسفة، والمعادلة الأخيرة هي لعبة الانحياز في الخطاب.

وفي مقالتي الذاتية العلمية دعوني أحدثّكم عن لغة الخطاب الإعلامي في حادثة ما، حين ركبت الحافلة المتجهة نحو الجامعة كالمعتاد، أسابق الزمن؛ إنّه موعد محاضرة تطبيقات لغويّة في الإعلام حيث رفع السائق صوت المذياع ليتسنى للركاب سماع نشرة أخبار الظهيرة من محطة وطنية، حينها توقّفت الأفواه عن الكلام، وخيّم الصّمت على المشهد والسياق، وكأن على رؤوس المتلقين الطير، العبارة الأخيرة في الخطاب الإعلامي للمذيع:

(جثث متفحّمة) هي أول الصمت وآخر الهدوء، حين بدأت الحناجر بالحوقلة يردفها اللعن والسُّباب والشتم، يبدو أن الدلالة التأثيرية لتلك العبارة " جثث متفحّمة"، قد استطاعت إيصال الرسالة الإعلامية بصدمة للمتلقين، ونجح المرسل في التعبير عن بشاعة حادثة الحريق في المدينة الذي يدفع فعلا للأسى والحزن الذي قد يأخذ وجه الشرعية في بعض الأحيان.

قررت حينها أن أجعل موضوع المحاضرة في لغة الانحياز في اللغة الإعلامية، وبدأت باسترجاع حزمة من الألفاظ والعبارات والمصطلحات والأساليب الموظّفة الخطاب وفي المحطات الإعلامية ذات الدلالات المتقابلة بين الإثارة والتحريض، أو الحيلولة دون عنفوانها، وعزمت أن أدلّل عليها من خطابنا الإعلامي في الوسط العربيّ، وبدأت بعقد موازنة بين محطتين إذاعيتين إحداهما تقف مع الربيع السوريّ آنذاك، و أخرى مناهضة له، و زاد تحمسيّ للموضوع مقولة صديق لي يستكمل برنامجه للدراسات العليا في كلية الإعلام بدمشق: " لا شيء في دمشق يثير القلق يا صديقي مناوشات فقط كن مطمئنًا، و العناوين متزاحمة على الشاشات: دمشق تحترق، حينها أدركت أنها لغة الانحياز في الخطاب تقف وراء كل شيء، لنتأمل تلك العبارات والمحكيات في خطاب تلك المحطتين الإعلاميتين، تتراوح بين الشحن تارة، والتبريد وتهوين الأحداث تارة أخرى:

محطة إذاعية رقم 1

اندلعت الثورات التحررية في أحياء مدينة دمشق

تُرتكب في حق شعبنا السوريّ مذابح يومية

أعلنت المؤسسات الشبابية العصيان والثورة

رصدت عين الكاميرا جرائم عدة

ألقي القبض على الأحرار وزجّوا بالسجن

أعلنت المعارضة عن أهدافها المنشودة

رفض أسلوب الرقابة الحكومية

محطة إذاعية رقم 2

-رصدت حوادث شغب في بعض الأحياء

- تقع في أرجاء البلاد حوادث شغب مدينة وقتل

-أعلنت المؤسسات الاعتصام

- لوحظ عدة تجاوزات طارئة

بقي المتحفظ عليهم في السجن

لا بدّ من الحرص على التعليمات الرسمية

في ظل تلك اللغة المتفاوتة بين الشحن والتبريد، بين خطابين: أحدهما يشحن ويدعو للثورة، وآخر مناصر للحكومة، ويدعو لمناصرتها. هذه هي لغة الانحياز في الخطاب، تبتعد عن الموضوعية والنزاهة، حتى تبدو لك تلك الأخبار في لغة الإعلام؛ لا لون ولا طعم ولا رائحة، تنقلب فيها المظاهرات والثورات إلى حوادث شغب، و تصبح الثورات هزيمة وتمرّدًا، وتمسي أحياء دمشق مجرد اعتصام، ومناوشات في ساعات الليل الحالك، يغنّي لها حاكم البلاد كي تنام يا صديقي العزيز.