كان المشهد غير اعتياديّ هذه المرّة، وذلك لأنّ الجريمة لم تكن عاديّة، إذ حملت في طيّاتها مجزرة لم تشهدها البلاد قطّ
امتزج غروب الشمس الخميس الماضي في يافة الناصرة بشريط أحمر التفّ حوله العشرات من الأهالي. برزت من بين المتواجدين وجوه الفتية والشباب، وبالرّغم من تجمّعهم واكتظاظ المكان، إلّا أنّ الصمت كان سائدًا؛ صمت ممزوج بالخوف والقلق، الخوف من الحاضر، والقلق من المستقبل.
كان المشهد غير اعتياديّ هذه المرّة، وذلك لأنّ الجريمة لم تكن عاديّة، إذ حملت في طيّاتها مجزرة لم تشهدها البلاد قطّ. كانت الفوضى تعمّ المكان، بالإضافة إلى تجمهر الشرطة وسكّان الحيّ، ولكن ما كان واضحًا على وجوه الناس، أنّ صدمةً وقعت في بلدة آمنة. وحول الشريط الأحمر الذي وضعته الشرطة في موقع الجريمة (المجزرة) التي أودت بحياة خمسة شبّان، تجمّع عشرات الفتية والشبّان من القرية، جزء منهم كان على صلة بأحد الضحايا، والجزء الآخر كان من سكّان الحيّ، وآخرون كانوا يلعبون في المدرسة المجاورة.
اللون الأسود كان مهيمنًا على ملابسهم. نظراتهم الخجولة الحائرة تتلفّت يمينًا ويسارًا. كانوا يسترقون النظر نحو موقع الجريمة، ومن الواضح على وجوههم محاولاتهم لإخفاء الدموع، إلّا أنّ جزءًا منهم لم يتمالك نفسه، فانزلقت دموعهم رغمًا عنهم. إنّهم يريدون إخفاءها، لكي لا يجعلوا من أنفسهم ضعفاء أمام الناس؛ ففي هذه المراحل من الحياة، يبني الشابّ شخصيّته، ويصقل فيها قيمه ويعزّز فيها مساره، ولكن يبدو أنّ ظروف الحياة التي خلقتها الحكومات العنصريّة المتعاقبة، علّمتهم أنّ القويّ هو الذي يعيش، وأنّ التسامح ضعف، أمّا البكاء، فهو من صفات العجز.
اصطفّ الجميع حول ذلك الشريط الأحمر، كانوا يحدّقون في موقع الجريمة الذي قتل فيه ابن حيّهم، وابن صفّهم أو زميل مدرستهم، رامي مرجية (15 عامًا). هؤلاء الشباب ما كان يجب أن يكونوا في هذا المكان لولا الظروف والعوامل، وكما قالت إحدى الأمّهات في موقع الجريمة وكانت برفقة ابنها: "بدلًا من أن يلهو ابني في النادي، عليه أن يعيش أجواء الجريمة عن كثب".
جيل في تيه
بينما كنتُ أنظرُ إلى الشاب في موقع الجريمة، أعادتني المشاهد إلى حقبة من الزمن كنت عشتها قبل 20 عامًا، في وقت كانت الطيّبة تغرق بصراعات دمويّة، كنّا نضطرّ كفتية في الحيّ إلى مشاهدة "مسارح" الجريمة، ننتقل من "مسرح" إلى آخر مضطرّين، لأنّ الرصاص أفسد علينا مباراة كرة القدم، أو بدّد الهدوء في النادي المجاور، نحدّق بظرف الرصاص بدلًا من الكرة، نفكّر في الجريمة بدلًا من لعبة الشطرنج، لأنّ الجوّ كان مهيّأ للجريمة.
أذكر ذلك الوقت الذي لم ينظر فيه أحد إلى جيلنا، الجيل الذي لم تلامس أحلامه أو متطلّباته آذان أحد. جزء كبير منّا لم يجد الحضن الراعي، ولا الإطار الذي يحتويه؛ جيل كان غارقًا في وحل الجريمة، والجوّ العامّ كان مساهمًا، وفي أقبح الكوابيس لم يخيّل لي، أن أكون شاهدًا على جريمة قتل لابن الحيّ الذي كان يلعب معنا، أو شاهدًا على انزلاق الكثيرين إلى عالم الإجرام، بين سجين، هارب أو قتيل.
انزلاق الشباب آنذاك لم يكن وليد صدفة، هو نتاج سياسات التهميش والعنصريّة من قبل الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة، والتي هيّأت الجوّ العامّ للجريمة، للانتقام وتشكيل المنظّمات الإجراميّة؛ جزء كبير من الشباب عاش في تلك الظروف مجبرًا، بيد أنّ هذا الجيل من الشباب يعيش الظروف ذاتها، ولكن أسوأ ممّا سبق، فقد لا يولد المجرم مجرمًا، إنّما البيئة والظروف هي التي تصنعه. وللأسف، فإنّ كلّ شيء يدفع بهم (الشباب) إلى الأسوأ، الأمر الذي يغيّر من صورة المجتمع، فهذا التهميش جعلهم تائهين بين مستنقع الجريمة، البطالة أو ظروف اجتماعيّة صعبة.
لا يمكن فصل الجريمة، خصوصًا الجريمة المنظّمة، وما يحدث في المجتمع العربيّ اليوم عن المسبّبات العميقة التي أوصلتنا إليها؛ 57 ألف شابّ/ة في الأعمار 18- 24 عامًا لا يعملون ولا يتعلّمون في المجتمع العربيّ. وتفيد الأرقام أنّ ارتفاعًا بنسبة 50% حصل في الأعوام 2015-2021 بضلوع الشباب العرب بالجريمة، بحسب تقرير مراقب الدولة للعام 2023. في هذا الجيل يبدأ الشباب بناء شخصيّاتهم المستقلّة، ولكن وسط هذه الظروف والبيئة التي نتجت عن السياسات العنصريّة في مجتمعنا، يجد الشابّ نفسه في تيه، وقد أغلقت أمامه جميع الطرق والوسائل لبناء حياة كريمة، حتّى وصلنا إلى مرحلة باتت فيها الجريمة بكلّ أشكالها جزءًا من حياة شبابنا اليوميّة، واعتدنا عليها وتعايشنا معها وكأنّها شيء ما طبيعيّ.
قد يظنّ الكثير أنّ الشباب الضالع بالإجرام في مجتمعنا بدافع المال والمادّة فحسب، أو أنّهم من عائلات فقيرة، ولكنّ الحقيقة غير ذلك. خلال عملي قابلت جزءًا كبيرًا من الشباب المنخرطين في عالم الجريمة، منهم من كانوا من عائلات متوسّطة بدوافع مختلفة، ليست ماديّة فحسب، وإنّما نفسيّة اجتماعيّة، أهمّها أنّ جزءًا لا بأس به منهم يبحثون عن عوامل وقواسم مشتركة، وجزء آخر منهم يلجأ للإجرام لأجل الحماية، وآخرون يبحثون عن الشعور بالأمان؛ الإيمان بأنّ التواجد وسط الخطر، هو المساحة الآمنة الوحيدة المتبقّية لهم في هذا العالم الخطير.
هنا، لا أبرّر للشباب جريمتهم بقدر ما أقدّم توضيحًا إلى ما دفعهم للانخراط بالإجرام، ومهما حاولت جاهدًا فلن أوفي بوصف معاناتهم، ومقدار آلامهم وحاجاتهم؛ لأنّ الخناجر لا تؤلم إلّا الكبد الذي غرست فيه.
من المعلوم أنّ الشباب الذي لا يعمل ولا يتعلّم، ويتنقّل تائهًا من عمل إلى آخر ويعيش ظروفًا اجتماعيّة واقتصاديّة متدنّية، يلتقطه الشارع ويكون أرضًا خصبة لعالم الجريمة بعد أن تحطّم نفسيًّا، خصوصًا في وقت بدأت تتعاظم فيه المنظّمات الإجراميّة العربيّة، والتي باتت تحاول تجنيدهم بكلّ السبل من أجل توسيع طموحها ونفوذها.
ولعلّ الأرقام هذه تشير إلى حجم المأساة لدى هذه الشريحة؛ نصف ضحايا جرائم القتل في المجتمع العربيّ (47 من أصل 96 في العام الجاري) هم تحت سنّ الـ30 عامًا، والغالبيّة العظمى من "الجنود" ("درجة ثالثة") في المنظّمات الإجراميّة العربيّة هم في سنّ 15 - 28 عامًا؛ ومن المعلوم أنّ شريحة "الجنود" هي الأكثر عرضة إلى القتل أو السجن، لأنّ العناصر فيها دائمًا في واجهة الصراع.
في النهاية، لا يمكن الحديث عن تقليل نسب الجريمة في المجتمع العربيّ، دون أن نجفّف أحد أهمّ منابعها ومسبّباتها الحقيقيّة؛ أهمّها أن يتمّ النظر إلى هؤلاء الشباب "الشفّافين" غير المرئيّين، والعمل على سدّ احتياجاتهم وتخليصهم من مستنقع البطالة وعدم التعليم، لنشلهم من الشارع، أو من المنظّمات الإجراميّة التي استغلّت الفجوة و"احتضنتهم"، قبل أن يتحوّلوا إلى مجرمين أو ضحايا (في كلتا الحالتين هم ضحايا). ويجب علينا كمجتمع إن كنّا حقيقيّين في قرارة أنفسنا لمحاربة هذه الآفة، أن نوجّه غضبنا إلى المكان الصحيح، وألّا نترك المسبّب الأوّل، والمجرم الحقيقيّ الذي أوصل مجتمعنا إلى هذا الحال، ألا وهي الحكومات الإسرائيليّة، وأن نكفّ عن جلد ذاتنا وشبابنا، لأنّه لا بدّ من علاج الداء من جذوره.