في الأسبوع الماضي، قرأت خبرين ربما سيكون لهما أثر واضح في مستقبل الحروب التي يشهدها عالمنا باطراد؛ وهو مستقبل لا يعد، للأسف الشديد، إلا بتوافر المزيد من قدرات القتل والدمار.
وأما الخبر الأول؛ فينقل عن رجل الصناعة والتكنولوجيا، ومالك منصة "تويتر"، المثير للجدل، إيلون ماسك، مخاوفه من انعكاسات تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي على حالة السلم العالمية؛ إذ يحذر من أن الحكومات "ستكثف توظيفها لتلك التقنيات في إنتاج وتطوير الأسلحة".
وفي الخبر الثاني، تنقل وكالات الأنباء العالمية عن مصدر عسكري روسي قوله إن منظومة الدفاع الجوي الصاروخية "إس 350" (فيتياز) التي تمتلكها بلاده، "تمكنت من إسقاط طائرة حربية أوكرانية لأول مرة في التاريخ بطريقة (أوتوماتيكية)؛ أي من دون مشاركة بشرية، حيث تم تلقين تلك المنظومة، لكي تجري عمليات رمي كاملة، من دون توجيه أو إشراف من أي من العسكريين البشر".
والواقع أن دراسات الحرب وتطوراتها تحفل بالعديد من المداخل، التي يمكن تناولها من خلالها؛ وبعض تلك المداخل يتعلق بالجغرافيا والتاريخ، وبعضها الآخر يختص بالسياسة أو الموارد أو التنظيم، كما يظل العنصر البشري أحد أهم تلك المداخل وأكثرها تأثيراً، سواء كان هذا العنصر قائداً ومخططاً، أو جندياً فرداً ضمن الجحافل المقاتلة.
لكن ثمة مدخلاً حيوياً يمكن من خلاله مقاربة تاريخ الحرب واستشراف مستقبلها.. إنه مدخل العلم؛ إذ سيمكن ببساطة اعتبار أن تطور الحرب ليس سوى انعكاس لتطور العلوم والقدرة على تسخيرها لخدمة آلة الحرب أو أهدافها، وفي هذا الإطار ستبرز خطورة تطور آليات الذكاء الاصطناعي، والأنباء المتواترة عن بدء تفعيل أدوارها في عمليات القتال.
وللحرب تاريخ طويل مع العلم والمكتشفات الحديثة؛ ففي العام 212 قبل الميلاد، حين هاجم الجنود الرومان مدينة "سرقوسة"، الواقعة في جزيرة "صقلية"، بأسطول ضخم، قام أرشميدس، عالم الفيزياء والرياضيات والفلك الشهير، بتسخير قدراته العلمية في عملية الدفاع، عندما وضع ألواحاً عاكسة في أماكن مختارة، بحيث أمكنها أن تعكس أشعة الشمس بكثافة شديدة، مستهدفة نقاطاً محددة في سفن الأسطول الروماني، وهو الأمر الذي أدى إلى اشتعال الحرائق فيها.
وكما كان استخدام الخيول المدرعة حدثاً مفصلياً في تاريخ الحروب، أضحى استخدام العربة الحربية إيذاناً بعصر جديد من عصور القتال، خصوصاً بعدما حسم معارك مؤثرة غيرت مسار التاريخ.لكن في العام 1520، عندما تم اختراع البندقية الإسبانية، كان ذلك إيذاناً بتغير جوهري في أساليب القتال، حيث توارت "شجاعة الفرسان" أمام "مخاتلات البنادق".
فلعقود طويلة، كانت الخيول المُدّرعة كفيلة بحسم أي معركة من معارك الجيل الأول للحرب، إلى أن تم اختراع المدفعية؛ فباتت تلك الخيول وبالاً على من يستخدمها.
لقد حدث شيء من هذا القبيل، حين غزا نابليون بونابرت مصر في العام 1798، ليواجه بمدفعيته فرسان المماليك الشجعان في ملابسهم المزركشة، ودروعهم الثقيلة، وخيولهم الأصيلة.
وكما نعرف، فقد كانت النتيجة مفجعة؛ إذ انهزم الفرسان الشجعان ببساطة، ولم يُمنحوا فرصة منازلة العدو بسيوفهم، وخرجوا من التاريخ.لم يستفد فرسان المماليك شيئاً من الخيول الأصيلة، لأن مدفعية الجيش الفرنسي كانت أكثر تأثيرا.
لكن الآلة العسكرية الفرنسية كلها منيت بهزيمة نكراء لاحقاً في مستهل الحرب العالمية الثانية، على يد الجيش الألماني، الذي كان يستخدم دبابات مدرعة خفيفة الحركة من نوع "بانتزر مارك الثاني"، وهي الدبابات التي مكنته من تحقيق الاختراق في صفوف العدو، والالتفاف على خط "ماجينو"، مستفيداً من دعم سلاح الجو وامتلاكه قدرة عالية على المناورة.
فحين شاركت الدبابة في أولى العمليات الميدانية في العام 1916، اضطر القادة والمخططون إلى إجراء تغييرات جوهرية على خططهم ووسائلهم، وهو الأمر الذي ما لبث أن تعرض لهزة كبيرة بمجرد مشاركة الطائرة في الحروب بحلول العام 1918، حين كانت الحرب العالمية الأولى تشرف على النهاية.
إنها قصة الحرب إذا، الموارد والمعدات ووسائل استخدامها تحدد اسم المنتصر إلى حد بعيد، بصرف النظر عن شجاعة المقاتلين أو الحق الأخلاقي.وفي 6 أغسطس من العام 1945، حُبست أنفاس العالم، حين تم قصف مدينة هيروشيما اليابانية بالقنبلة الذرية، وهو الحدث الذي ظن كثيرون أنه بمنزلة نهاية مبكرة لـ "قصة الحرب"، لكن ما لبثت الحرب التكنولوجية أن استأثرت باهتمام بحثي كبير، خصوصاً بعد بروز دور هجماتها في الصراعات المعاصرة.
فبوصفها أكثر حالات الصراع الإنساني وضوحاً وقسوة، ستظل الحرب قادرة على الإلهام والاستئثار بالدرس والبحث، بل إنها أسهمت أيضاً في تعزيز الفن والإبداع، بسبب انطوائها على كل أنماط "الحبكات" والإثارة وتقلبات الأحداث، فضلاً عن المقاربة الكارثية والمأساوية التي ترتبط بها ارتباطاً دائماً.
يقول الفيلسوف اليوناني توسيديدس Thucydides إن "السلم ليس سوى هدنة في حرب مستمرة"؛ فالحاجة إلى الحرب ستظل قائمة، بمثل الحاجة إلى السلام تماماً، وطالما أن العلم بات الوسيلة الأكثر استخداماً ونجاعة في مقاربة الحاجات الإنسانية، فإن مستقبل الحرب سيرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستقبله على مر العقود المقبلة.
واليوم، يبدو أن هذا المستقبل بات رهينة لمستجدات ومكتشفات وتطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، الذي يبدو أنه، كما قال ماسك، تماماً: "سلاح ذو حدين".