وداعًا عاشق فلسطين وابن الشجرة الوفي مرعي عبد الرحمن
تاريخ النشر : 03 مايو, 2023 02:56 مساءً

ودعت فلسطين ظهر اليوم في رام الله، أحد أهم كوادر ومثقفي الثورة الفلسطينية. صاحب التفكير النقدي والمواقف الشجاعة. الدكتور مرعي عبد الرحمن "أبي فارس"، الذي رحل عن دنيانا في التاسع والعشرين من نيسان 2023 في العاصمة الأردنية عمان، بعد معاناة طويلة مع المرض.

لم يحظ الدكتور مرعي عبد الرحمن خلال حياته بالتكريم الذي يستحق، ولم يلق العرفان الذي يليق بثراء عطائه الوطني والفكري.

وعكس النعي الرسمي المختزل للرئاسة. وذاك الذي أصدرته حركة فتح، والغياب الإعلامي، وتواضع المشاركة في جنازة الراحل الكبير تقصيرا لافتا، ليس فقط في حق "أبو فارس. وإنما أساس في حق الأجيال الشابة التي لم تحظ بمعرفة الرجل النموذج للمثقف العضوي. الذي أمضى حياته متنقلا بين الساحات وقواعد الفدائيين. وخاض كل معارك الدفاع عن الثورة الفلسطينية في الأردن ولبنان وسوريا وتونسوبعد عودته إلى فلسطين.

لم تجذبه الدنيا ومتاعها. ولم تشغل أبا فارس خلال حياته المواقع والمناصب التي هو أهل لها. بل كان الرجل يسابق الزمن لاكتساب المعرفةبموجبات وشروط الانتصار في الحرب الإمبريالية العالمية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني والأمة العربية للقرن الثاني على التوالي، ولتعميم المعرفة وتوظيفها للنهوض بالوعي المعرفي الفلسطيني والعربي. الذي يشكل شرطا لا غنى عنه للانتصار.

يكبر مرعي عبد الرحمن، دولة“ إسرائيل“ بأربعة أعوام. ولد في قرية الشجرة/ قضاء طبريا. في موسم الحصاد عام 1944 كما أبلغته والدته. إذ أضعفت الاعتداءات البريطانية والصهيونية المتواصلة على أهل فلسطين أثناء تأسيس المستعمرة الصهيونية فوق أرض وطنهم، ذاكرتهم اتجاه قضاياهم الخاصة، فكانوا يستقبلون مواليدهم تحت القصف بخوف على مصيرهم يبدد الفرح بقدومهم. ويعجزون عن تسجيلهم الفوري في الدوائر الرسمية، فيستعينون بالمواسم والأحداث لتوثيق تاريخ ولادتهم.

ولم يكد الطفل مرعي عبد الرحمن يبلغ الرابعة من عمره، حتى وجد نفسه هائما في الجبال مع آلاف الأطفال والنساء والشيوخ، بعد أن قرر أهالي القرية إخلاءهم إثر تكرار اجتياح جيش الانتداب والعصابات الصهيونية للقرية (وكانوا قد سمعوا عن مذبحة دير ياسين التي ارتكبتها عصابات سارجون وشتيرن وهاجانا في التاسع من نيسان 1948، بعد أقل من أسبوعين من موافقة أهالي دير ياسين على طلب رؤساء المستعمرات الاستيطانية اليهودية المجاورة لإبرام اتفاق سلام معهم. ما لبثوا وأن نقضوه بعد استكمال استعداداتهم، فاجتاحواالقرية وقتلوا نحو 250-360 من أهلها غالبيتهم العظمى من الأطفال والنساء والشيوخ). وعليه، قرر أهالي قرية الشجرة الإبقاء فقط على من يستطيع الدفاع عن القرية من الرجال، وبعض النسوة اللواتي أصررن على البقاء لإسعاف الجرحى وإعداد الطعام للمقاتلين. واستمرت المعارك على قرية الشجرة أكثر من خمسة أشهر متصلة، شهدت كرا وفرا، واستشهد خلالها أكثر من 300 مقاتل، وسقطت القرية بأيدي الغزاة الصهاينة في 15/7/1948، بعد نفاذ العتاد والذخيرة.

وبسقوط" الشجرة "أحكمت العصابات الصهيونية سيطرتها على الجليل الأسفل. ووسعوا المستعمرة الاستيطانية اليهودية الواقعة على مشارفها، والتي سميت" الشجرة "/ بالسين/، بغية إخفاء القرية الفلسطينية واقتلاعها من التاريخ بعد محوها من الجغرافيا، وإكسابهاإسما عبريا كما فعلوا في 530 قرية فلسطينية، وعديد المدن الفلسطينية التي طوعوا أسماءها العربية لإكسابها هوية عبرية.

استقرت عائلة مرعي عبد الرحمن مع جمع من آلاف الأسر الفلسطينية المهجرة من مدن وقرى شمال فلسطين في مخيم للاجئين في حمصبسوريا. وفي مدرسة الشجرة بالمخيم، أنهى دراسته الإعدادية، ثم واصل دراسته الثانوية في مدرسة عبد الحميد الزهراوي بحمص. وفي العام 1963 حصل على منحة لدراسة اللغة والأدب الروسي في الاتحاد السوفييتي. وبعد أن أنهى الماجستير في العام 1969، التحقمرعي عبد الرحمن بحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في الأردن. وتنقل بين قواعد الفدائيين في الأغوار وجبال السلط وجرش وعجلون، وجابي معسكرات التدريب في الأردن وسوريا للتوعية والتثقيف السياسي للمقاتلين.

كان مرعي عبد الرحمن يرى في الثورة الفلسطينية الوليدة فرصة ممكنة لتصويب اعوجاج مسار التاريخ الفلسطيني والعربي. فعلى الرغم ن إدراكه للاختلال الهائل في موازين القوى بعد الهزيمة التي منيت بها الأمة، والانتصار الساحق لقوى الإمبريالية العالمية في حربين كونيتين. وإمعانهم في تقسيم المنطقة وتفكيكها وإعادة هندستها جغرافيا وديموغرافيا وسياسيا واقتصاديا. ونجاحها في زرع الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، وتمدده في كامل الوطن الفلسطيني.

إلا أنه كان واثقا من أن مقاومة الشعب الفلسطيني وصموده واستعصائه على الاستسلام لجبروت القوة القاهرة، هو السبيل الوحيد لوقفالهزيمة والتراجع في عموم المنطقة العربية، ومنع التحالف الإمبريالي الصهيوني من تحقيق كامل أهدافه بإخضاع الأمة وإحكام سيطرته على عموم المنطقة العربية- الإسلامية الممتدة.

وكان يعي أن قدر الشعب الفلسطيني، الذي أملاه موقع فلسطين في مركز الوصل والفصل الجغرافي والديموغرافي والحضاري بين مشرقالأمة ومغربها، يحتم عليه أن يكون رأس الحربة. وفي مقدمة قوى التحرر العربية والعالمية المناط بها مواجهة التحالف الإمبريالي الصهيوني، وهزيمة قاعدته الارتكازية الأهم في فلسطين.

كان مرعي عبد الرحمن، أبي فارس، واحدا من مجموعة متميزة من المثقفين الفلسطينيين وأصحاب التفكير النقدي. يتقدمهم حنا ميخائيل/ أبيعمر (الذي اختطف مع رفاقه في البحر عام 1976 أثناء توجههم في مهمة لطرابلس بلبنان)، وماجد أبو شرار، وإلياس شوفاني، وعبد الفتاح القلقيلي (أبي نائل)، وأحمد أبو شاويش (أبي معن) وعدد من كوادر الثورة الذين تمايزوا بمواقفهم داخل الحركة. وشكلوا مع ناجي علوش، وأبي صالح، وأبي خالد العملة، وقدري، وأحمد الأزهري، ومحجوب عمر، ومنير شفيق، ومحمد أبو ميزر (أبي حاتم)، ونزيه غطاس (أبو نضال) وحنا مقبل (أبو ثائر) وآخرين من القيادات الطلابية والعمالية تيارا يساريا أوسع داخل الحركة.

كان "أبو فارس" يؤمن بالماركسية اللينينية. وبصحة موقفها النظري من حل المسألة اليهودية ومعاداتها للصهيونية. وخلافا لغالبية اليساريين والشيوعيين الذين كانوا يصوغون مواقفهم في ضوء إملاءات مراكز اليسار العالمي التي يوالونها/ الاتحاد السوفييتي والصين/.

تمايزت مواقف أبي فارس وثلة من رفاقه الفلسطينيين- الذين تأثروا بالنموذج النضالي الفيتنامي- عن مواقف اليسار الذي كان سائدا، آنذاك. وتقاربوا مع اليساريين العرب الذين آمنوا بوحدة الترابط الوطني والقومي والأممي (طاهر عبد الحكيم مؤسس الحزب الشيوعي المصري 8 يناير، ورياض الترك/ الحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي وميشيل كيلو وغيرهم).

تميز أبو فارس ورفاقه بوعيهم للدور التاريخي لحركة التحرير الوطني الفلسطيني/ فتح في تفجير الثورة. وفي بلورتها لإطار وطني يشبهشعبها ويتسع لمختلف التيارات الفكرية والسياسية الفلسطينية. وإدراكهم لمركزية دور فتح في استعادة الوعي الفلسطيني وتجاوز صدمة الهزيمة. وإسهامها الرئيس في بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة.

ولم تحل ثقتهم وتقديرهم العالي للدور الريادي لقادة فتح ومؤسسيها (أبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد، وكمال عدوان، وأبو يوسف النجار، وأبو السعيد، وأبو اللطف، وأبو صبري، وسعد صايل، وأبو مازن).

ولم تمنعهم من تبين أوجه التباين معهم في الرؤى والاجتهادات بشأن السياسات والسلوكيات التنظيمية، والمجاهرة بملاحظاتهم النقدية، ما أبعدهم عن مواقع المسؤولية. وحصر تأثيرهم في دور استشاري غير ملزم. وواصلوا العمل في أطر الحركة، بخلاف آخرين آثروا الانشقاق عنها في مراحل مختلفة. وخصوصا بعيد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وإخراج الثورة من لبنان. وشكلوا فتح الانتفاضة كبديل، وحاولوا تشكيل تحالف مع بعض التنظيمات الفلسطينية التابعة للأنظمة للاستيلاء على منظمة التحرير الفلسطينية. واتخذوا من العاصمة السورية دمشق مركزا لهم. وتحالفوا مع النظام السوري في الصراع على القرار الوطني الفلسطيني.

كان أبو فارس وبعض رفاقه يدركون مخاطر الانشقاقات الفلسطينية في ظل الافتقار إلى قاعدة ارتكاز فلسطينية صلبة، وتحفز الأنظمة العربية للاستخدام الوظيفي للورقة الفلسطينية، كما سبق وحدث مع ظاهرة صبري البنا/ أبو نضال/، الذي انشق عن حركة فتح إثر إقرار البرنامج المرحلي عام 1974.

وكانوا مؤمنين بأهمية الوحدة والبقاء في البيت الفتحاوي رغم الاختلاف مع القيادة. والحفاظ على استقلالية منظمة التحرير الفلسطيني عن النظام الرسمي العربي. والسعي للتأثير من داخلهما، عبر النهوض بالوعي المعرفي، الذي استأثر بجل اهتمامه.

وخلافا للعديد من زملائه وأصدقائه الذين آثروا البقاء في سوريا. التحق أبو فارس بالرئيس عرفات ورفاقه في تونس. وساهم في إعادة تأسيس دائرة العلاقات القومية في منظمة التحرير الفلسطينية، وترأس إدارة المنظمات غير الحكومية فيها. وفي العام 1984 مثل فلسطين في السكرتارية الدولية للمنظمات غير الحكومية التي ترعاها الأمم المتحدة. وعندما عاد للوطن عام 1994 في أعقاب اتفاق أوسلو، تولى أبو فارس مسؤولية دائرة العلاقات القومية في منظمة التحرير الفلسطينية حتى عام 2005. ومثل فلسطين في مجلس السلم العالمي.

وكان أبو فارس قد حصل على شهادة الدكتوراة من معهد الاستشراق في موسكو، وكتب أطروحته حول "تطور سياسة منظمة التحرير الفلسطينية عبر النضال التحرري ضد الاستعمار الإسرائيلي".

وأصدر كتابه "الإمبريالية اليهودية، قراءة أولية في المسألة اليهودية والمشروع الصهيوني" الذي نشر في طبعة أولى بتونس عام 1987- وأعتقد أن أبو فارس كان أول من استخدم مصطلح "الإمبريالية اليهودية" وربما الوحيد-، وضمن الكتاب خلاصة أبحاثه المعمقة في التاريخ القديم والحديث، التي حاول عبرها الحصول على إجابات واضحة لأسئلة مركزية، تمكن من فهم طبيعة المشروع الاستعماري الصهيوني. فقد كان مدركا للأهمية المحورية للفهم الصحيح للعدو ومخططاته، في بلورة رؤية نهضوية فلسطينية وعربية ومشروع تحررينقيض للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ومؤهل لهزيمته.

فلم تقنعه التفسيرات التي تنسب انتصار الحركة الصهيونية ونجاحها في إقامة مركزها الاستيطاني اليهودي في فلسطين ومواصلة تقدمه، وترجعه لدعم القوى الإمبريالية الأمريكية والأوروبية الهائل للكيان الصهيوني، على الرغم من الأهمية الحاسمة لهذا الدعم.

ولم يقنعه، أيضا، تفسير أسباب هذا الدعم بالاستخدام الإمبريالي الوظيفي للحركة الصهيونية كوكيل تنفيذي. فاجتهد في دراسة التاريخ لفهم المسألة اليهودية وظروف نشأتها، ومرتكزاتها الدينية والاقتصادية/ التجارية الربوية/. ولاحظ نموها وتراكم مفاعيلها في أوروبا في العصور الوسطى، ما أسس لنشوء إمبريالية يهودية خاصة، سابقة لظهور الإمبريالية الأوروبية والأمريكية التي نمت وتطورت بعد الثورة الصناعية. ولفته مواكبة هذا التطور ببداية بروز الصهيونية السياسية في القرن الثامن عشر، التي ارتكزت على الإرث التراكمي الديني والتجاري/ الربوي/ للإمبريالية اليهودية.

لقد أغفل الفلسطينيون، وأنا منهم، الكتاب الوثيقة. وأمضينا  الكثير من الوقت في البحث عن إجابات واضحة ومقنعة لفهم الأسباب الذاتيةلنجاح الحركة الصهيونية. وغالينا كثيرا في ترجيح الأهمية النسبية لدور الإمبريالية العالمية في بلورة المشروع  الصهيوني، وفِي تحققه.

وبدون الانتقاص من الدور الحاسم الذي لعبته الإمبريالية العالمية عموما، والأمريكية والبريطانيه والأوروبية خصوصا في تأسيس الكيان الاستيطاني الصهيوني، وتمدده في كامل فلسطين وجوارها العربي. وفي ورعايته وتمكينه وتطوره إلى قوة إقليمية وازنة.

إلا أن كل ذلك - كما  بين أبو فارس في كتابه البحثي المهم - لم يكن ممكن التحقق، لو غاب العامل الذاتي. ولولا نجاح الصهيونية السياسيةفي توظيف الإرث التراكمي للإمبريالية اليهودية، وصوغ مشروعها  الصهيوني الخاص، وإدراجه في المشروع الإمبريالي الكوني العام.

بمعنى أن الشراكة  بين الحركة الصهيونية والإمبريالية العالمية كانت قائمة منذ البداية، وليس كما هيء لي ولغيري، لاحقة لنشأة المركزالصهيوني في فلسطين ونجاحه في أداء دوره الوظيفي في المشروع الإمبريالي العام.

وأن موقع الحركة الصهيونية في هذه الشراكة يتعزز باضطراد في ضوء  النجاح  الملموس لمركزها / إسرائيل /، في حماية المصالحالإمبريالية الامريكية خصوصا،والغربية عموما بكلفة تراها إسرائيل متدنية، مقابل العوائد الوفيرة التي تعود عليهم، وتسعى لتصويب تقاسمها.

لروح  أبو فارس الطاهرة الرحمة والسكينة، ولإرثه النضالي والفكري الخلود،  ولتوأم  روحه ورفيقة  عمره  ونضاله الصديقه شادية الحلو،ولبلسم روحه الغالية سماء،  ولعائلتي عبد الرحمن والحلو، ولرفاق مسيرته وأصدقائه وعموم الشعب الفلسطيني والأمة العربية أحر التعازيفي وفاة أنبل الرجال.