تجلس السيدة السودانية أمام كاميرا مهتزة وبجانبها طفل صغير يبدو في الثالثة يلتصق بها وعيناه تبدوان زائغتين. تقول الأم: ابنى أصابه الرعب من صوت إطلاق النار الذي لا يتوقف، ويسألنى دائمًا: ماذا يحدث؟ ولا أعرف بماذا أجيبه. وبينما تنهى جملتها تنطلق أصوات إطلاق نيران ويدفن الطفل رأسه محتميًا بجسد أمه.
وبعدها مباشرة يتبارى الطرفان المتنازعان عبر ذات الشاشات ووسائل التواصل ليدعى كل طرف النصر الحاسم على الآخر والسيطرة الكاملة على العاصمة والمطارات ويدعو كل طرف إلى سحق الآخر. والواقع يقول إن كليهما يكذب ويدعى، وإن عمليات القتل المتبادل هي الحقيقة الوحيدة الحاضرة.
ويعلنون الهدنة تلو الهدنة، ويتعاملون معها بمنطق مختلف. فهمنا دائمًا أن الهدنة هدفها وقف القتال لبدء تفاوض أو لمساعدة الناس لمعاودة حياتهم بشكل شبه طبيعى أو للسماح بأعمال إنسانية لإنقاذ الجرحى وإغاثة المحتاج، لكنّ طرفى النزاع في السودان يتعاملان مع الهدنة باعتبارها وُجدت لتُنتهك، ويبدأ كل طرف في اتهام الآخر بخرقها في مشهد عبثى.
تخرج شاشات تلفزيونات البلدان المختلفة وبياناتها الرسمية لتبشر بنجاحها في إجلاء رعاياها من السودان، ويتعاملون مع ذلك الإجلاء باعتباره انتصارًا لكل دولة. ويصل الأمر أحيانًا إلى توجيه التهانى لنجاح عمليات الإجلاء. والحقيقة أن نجاح عمليات الإجلاء هو إعلان عن الانهيار القادم في السودان، على الأقل توقع عدم الوصول إلى مرحلة هدوء واشتعال الأزمة إلى مستوى أعلى وأكثر خطورة.
يخرج الطرفان من جديد ويعلن أحدهما أنه تواصل مع الزعيم الفلانى، ويخرج الآخر في صورة مع ممثلين عن القوى العلانية، سيتباهى هذا وذاك بهذا التواصل وهذه الصورة، التي قد تتبدل بمرور الأيام ومرور الظروف والتفاهمات والتحالفات، وتبقى الرصاصات حاضرة وأصوات القذائف مسموعة في أذن الجميع، الطرفان والقوى وزعماء العالم، لكن وقعها وصوتها أعلى وأكبر في أذن الشعب السودانى.
المشاهد العبثية ستتواصل، والكذب سيتواصل، والتباهى بالصور والمكالمات الهاتفية سيتواصل. الكل سيواصل ما بدأه دون النظر لحياة الطفل الذي يدفن رأسه في حضن أمه، محاولًا الاحتماء به من الشظايا والرصاصات، وسد أذنه من صوت القنابل المدوية. الكل سيواصل كتابة تاريخ عبثى يحتوى على مشاهد غير إنسانية وغير مهتمة بحياة الناس ومصائرها.
ستكون السيدة السودانية الجالسة أمام الكاميرا تحكى مأساتها محظوظة لو ظلت مشكلتها عدم القدرة على الإجابة عن سؤال ابنها وليست عدم القدرة على حفظه على قيد الحياة.