في هذه الأيّام يكون المشروع الصهيوني قد أكمل ثلاثة أرباع القرن على تأسيس [دولته]، وأكثر من قرنٍ كامل على المراحل التحضيرية والتمهيدية لقيامها.
لم تعد الكتابة عن هذه الذكرى تستقيم أو تحتمل ما كان يُكتب حولها سابقاً أمام الواقع الجديد، وأظنّ أنّ هذا الواقع الجديد بات يُملي، بل ويُحتّم على الجميع الارتقاء إلى مستوى قراءة هذا الواقع.
هناك زوايا كثيرة للكتابة، وهي شائكة ومعقّدة ومتداخلة، أيضاً، لكنّ علاقة إسرائيل [الدولة] كنتاج للمشروع الصهيوني بالمشروع «الغربي» في عموم منطقة الإقليم تبدو واحدة من أهم هذه الزوايا، وأكثرها مصيرية في الظروف الدولية الجديدة، المتغيّرة بتسارعٍ وديناميكية كبيرة.
ويبدو في هذا الإطار، وفي هذا السياق، أيضاً، أنه، وكما كان لـ «الغرب» الدور الحاسم في نشأة وتطوُّر المشروع الصهيوني، وفي قيام دولة هذا المشروع على أنقاض شعبنا، فإنّ للعلاقة ما بين واقع هذا المشروع وبين «الغرب» المأزوم في الظروف الدولية التي هي قيد التحوُّر والتكوين أهميةً استثنائية.
قبل قيام دولة المشروع الصهيوني في فلسطين كان «الغرب» الأوروبي هو صاحب اليد الطُّولى، وكان هذا «الغرب» هو القيادة الدولية لهذا المشروع، وكان الدور الأميركي هو دور الدعم والإسناد لـ «الغرب»، دون أن نغفل للحظة واحدة أن الولايات المتحدة الأميركية كانت قد وافقت على كامل مسار هذا المشروع، بل وأيّدت ودعمت صيغة [وعد بلفور] بعد أن تمّ عرضه عليها، وبعد «توضيح» أبعاده المستقبلية!
أخذت أميركا تتولّى قيادة منطقة الإقليم بالتدريج، وليس دفعةً واحدة، بدليل أن بريطانيا لم تسلّم مفاتيح منطقة الخليج العربي إلّا في مرحلة الستينات والسبعينات، وكانت حتى إلى ما بعد «العدوان الثلاثي» على مصر، بعد تأميم قناة السويس، ما زالت تحاول بالتعاون مع فرنسا، وبتعاونهما المشترك مع إسرائيل «الإبقاء» على دوريهما في المنطقة، دون أن تتمكّنا من الخروج عن «طاعة» أميركا، أو «التمرّد» عليها، خصوصاً وأن قيام دولة المشروع الصهيوني كواحدٍ من أهمّ المشاريع «الغربية» الاستراتيجية - إذا أضفنا إليه مشروع «مارشال» لإعادة إعمار وتأهيل أوروبا بعد دمار الحرب العالمية الثانية، وقيام «حلف شمال الأطلسي» لمواجهة الكتلة السوفياتية آنذاك ممثلةً في «حلف وارسو» - كان يتطلّب الانخراط التام، والالتزام والانتظام الكامل في الإطار الأميركي، إذا أراد أن يكون خارج دائرة التهديد.
وحتى الثلث الأوّل من ستينيات القرن الماضي كانت الولايات المتحدة «تأمل» في استمالة القيادة «الناصرية»، أو وقف «اندفاعها» نحو الكتلة السوفياتية، والحدّ من تأثير دورها «الإقليمي»، وتقليم دورها العالمي، الذي كانت تجسّده حركة «عدم الانحياز» بالتعاون مع الهند ويوغوسلافيا.
ما أن وصلنا إلى منتصف الستينيات حتى اكتمل الانخراط والانتظام الإسرائيلي في المخطّطات الإقليمية الأميركية في كامل المنطقة، وفي المخطّطات «الغربية» لمواجهة «المدّ السوفياتي»، خصوصاً وان جمال عبد الناصر بدأ «بالتمدّد» في كل المنطقة، ودعم ثورة الجزائر، وذهب للقتال في اليمن، وأوعز بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، ولم يتردّد في مشروع «الوحدة» مع سورية.
هنا انتقل الدور الأميركي إلى مرحلةٍ جديدة، نوعية، وخاصة في دعم إسرائيل، ومدّها بكلّ وسائل القوّة، والتفوّق، والتخطيط والإشراف المباشر على عدوان حزيران، وعلى تبنّي سياستها بالكامل، مع كل ما كانت تنطوي عليه هذه السياسة، من عدوانية ومن توسّعية، وتحوّلت دولة المشروع الصهيوني في ضوء نتائج عدوان حزيران 1967، إلى أداة ضاربة، وشريك خاص و»موثوق»، وإلى رأس الحربة في تأمين تدفُّق النفط، وحماية الممرّات الاستراتيجية لـ «الغرب» كلّه، وفي ضرب حركة التحرُّر العربية، ومنع تطوُّرها وتنامي دورها.
لكن أطماع المشروع الصهيوني كانت أكبر وأبعد من الاكتفاء بدور الأداة الضاربة، وأهمّ من الشريك الخاص، وأعمق من مجرّد التوسُّع الجغرافي، وما أن حصل «الانقلاب اليميني» في الانتخابات الإسرائيلية العام 1977 حتى بدأت مرحلة نوعية جديدة في رؤية المشروع الصهيوني لدوره، ولمكانته في المنطقة متمثّلاً في الدور الإقليمي لهذا المشروع.
الدور الإقليمي لدولة المشروع الصهيوني كان سيكون محدوداً، وسيظلّ قاصراً بمعزلٍ عن «بناء» قوّة عسكرية متفوّقة، وقادرة على الإبادة والتدمير، ولديها هوامش «جغرافية» كافية للمناورة الاستراتيجية، وأعداد كافية من المصادر البشرية.
وكان هذا الدور الإقليمي سيبقى محدود الفعالية والتأثير ما لم تكن إسرائيل، وما لم تتحوّل من مجرّد شريك إلى لاعبٍ مُتزايد القوّة، ومُتزايد الفعالية والتأثير في المعادلة الداخلية الأميركية نفسها، وفي المعادلة الداخلية «الغربية» عُموماً.
وكان يمكن للدور الإقليمي أن ينكمش ويتقوقع، ويتقلّص نفوذه، وتتراجع أهميته ومكانته ما لم يكن مُحاطاً بشبكةٍ قوية من العلاقات في منطقة «المحيط»، وفي عُموم منطقة «الإقليم»، وما لم تكن قوته الذاتية الخاصة قادرةً في كلّ الظروف على الدفاع عن هذا الدور.
وأخيراً وليس آخراً، فقد كان مُستحيلاً أن يكون لدولة الاحتلال مثل هذا الدور الإقليمي دون أن تتوفّر درجة عالية من التماسك الداخلي، والوحدة المجتمعية، درجة أخرى من «الإجماعات القومية» الكافية.
بدأ «اليمين»، ودشّن «النزعة الإسرائيلية» للاستقلالية النسبية عن أميركا و»الغرب» بإنتاج القنبلة الذرية، والرؤوس النووية لاحقاً، وعمل على بناء جيشٍ على أعلى المستويات العسكرية بالمقاييس الدولية، وحاول الاستعاضة عن محدودية العنصر البشري بنوعية التسليح والتدريب، ونظام متكامل للتعبئة العامّة، و»خدمة الاحتياط»، و»استكمل» احتلال فلسطين (الانتدابية)، واستولى على أراضي الجولان السورية، وأعلن عن ضمّها، ولم ينسحب من صحراء سيناء إلّا بشروطٍ أمنية وسياسية «عالية»، ولم ينسحب من أراضي قطاع غزة ، وإنّما أعاد «انتشاره» حولها لحصارها وإطباق الخناق عليها.
واستطاعت دولة الاحتلال، وخصوصاً بعد صُعود «اليمين» أن تلعب وتتلاعب بالمعادلة الداخلية الأميركية وصلت إلى حدّ «الإهانة» المباشرة للكرامة الأميركية نفسها، وأقامت «السلام الإبراهيمي»، ومهّدت له بكلّ العناصر الثقافية و»الفكرية» المطلوبة، والأدوات الأمنية والعسكرية المُصاحبة، تمهيداً للتمدّد الاقتصادي، وتجهيزاً للهيمنة الإقليمية المطلوبة، وتحوّلت الصناعة العسكرية الإسرائيلية إلى صناعةٍ متطوّرة وخاصة في إطار التصنيع العسكري «الغربي» كلّه.
لكن إسرائيل أخفقت إخفاقاً فاضحاً وسافراً في إخضاع شعبنا في «الداخل»، أو «أسرلته»، والذي يجري في الواقع هو تحويل برنامج إسرائيل للإخضاع و»الأسرلة» إلى هزيمة ساحقة.
وأخفقت إسرائيل في إخضاع الضفة الغربية والقطاع، وهي تعاني الأمرَّين، ولم تعد آمنة على أيّ صعيد جرّاء هذا الإخفاق.
وتفاقمت الأزمة الديمغرافية فيها، وأصبح حل هذه الأزمة هو مغامرة قد تكلّف الدولة الإسرائيلية وجودها نفسه، وأصبح عدد الفلسطينيين يفوق عدد اليهود في إسرائيل، وليس هناك من يضمن لها في كلّ هذا العالم مخرجاً من هذه الأزمة، ما «سيجبرُها» على إقامة نظام للفصل العنصري السافر ضد سبعة ملايين فلسطيني في حدود «إسرائيل الكبرى» وأكثر من نصفهم أو مثلهم إذا تمدّد المشروع الصهيوني وتمكّن من السيطرة على «الأردن» كما تدعو له «الفاشية الجديدة» في إسرائيل.
وستفقد إسرائيل ظهيرها الدولي إذا تحوّلت إلى دولة يهودية دينية، وستفقده حتماً إذا كفّت عن أن تكون «ديمقراطية» إلى جانب كونها دولة يهودية عنصرية.
وتفتقد إسرائيل اليوم أيّ «إجماع» حقيقي طالما أنها لم تتمكّن من حلّ العلاقة الشائكة بين «اليهودية» و»الديمقراطية». اعتمد التفكير الاستراتيجي الصهيوني في «رؤية» الدور الإقليمي لإسرائيل على القوّة العسكرية، واحتكار السلاح النووي، وعلى حالة «الهَوَان» العربية، وعلى دعمٍ «غربيّ» بلا شروط فعلية.
أمّا اليوم فكلّ هذه العوامل تتداعى واحداً بعد الآخر، وشروط الدور الإقليمي تتآكل تباعاً، وفشل المشروع الصهيوني أصبح ماثلاً للعيان، وأصبح بقاء الدولة الإسرائيلية نفسه منوطاً بشروطٍ داخلية، ومحيطة ودولية لم تعد ثابتة أو مستقرّة أو حتى ممكنة.
إسرائيل تسير رغم أنفها نحو معادلة «غربية» وعجيبة، وخارج كلّ توقُّع صهيوني وهي استحالة خروجها من الأزمة إلّا إذا تخلّت عن شروطها الصهيونية، وهي مسألة تطرح سؤالاً حول أهمية إسرائيل لـ «الغرب» في حال «كفّت» عن أن تكون جزءاً من مصالح وخطط «الغرب»، وهنا لا بدّ من عودة إلى «الحلّ» الممكن، والحلّ التاريخي لـلمسألتين «اليهودية»، و»الفلسطينية»، أيضاً.