السودان.. والطريق الصعب
تاريخ النشر : 24 ابريل, 2023 07:49 مساءً

فى العام 2013، كان العالم العربى يعيش أياما حاسمة على وقع الانتفاضات التى ضربت عددا من بلدانه وطالت شظاياها عددا آخر، وفى تلك الأثناء، أُتيحت لى فرصة زيارة عدد من دول أوروبا الشرقية، التى خرجت من تحت سيطرة الاتحاد السوفيتى السابق، عبر ثورات تاريخية.

وفى بولندا، أمكننى مقابلة الكاتب الكبير آدم ميشنك، أحد أبرز المثقفين المناهضين للحكم الشيوعى، حيث سألته: بم تنصحنا فى بلدان التغيير العربى؟

أجاب ميشنك بأنه بدأ فى التظاهر والاحتجاج ضد النظام الشيوعى السابق فى العام 1968، وأنه كثف من نضاله وكفاحه ضد السلطة فى النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى، وهو النضال الذى دفع بسببه ست سنوات من عمره قضاها فى السجون.

ويتذكر ميشنك أن ذروة الاحتجاجات التى شهدتها بلاده كانت فى الثمانينيات، وهى الاحتجاجات التى نجحت فى إسقاط النظام، لتبدأ بلاده بعدها فى مرحلة تحول ديمقراطى، استمرت لأكثر من عقدين.

ورأى ميشنك أن بولندا لم تحقق تحولا ديمقراطيا كاملا حتى اللحظة التى كان يتحدث فيها، وأن ديمقراطيتها تتعرض لضغوط، وأن أمام شعبه الكثير من الجهد والعمل لكى يصبح فى مصاف الدول الاسكندنافية مثلا.

لكن ميشنك عبر عن اعتقاده بأن أبرز خطر هدد بلاده كان «خطر البلقنة»، أى أن تنهار الدولة وتتفكك وتغرق فى الفوضى، والاقتتال الأهلى، وأنه سعى، ورفاق له، إلى مواجهة مثل ذلك الخطر فى كل الأوقات.

تذكرت هذه الوقائع، خلال الأسبوع الماضى، عندما اندلعت الأحداث المأساوية فى السودان الشقيق، وانخرط الجيش النظامى فى حرب لا هوادة فيها مع قوات «الدعم السريع»، وهو الأمر الذى ترك آثاره البالغة والمُحزنة على شعب السودان وأمنه واستقراره.

لم يكن ما حدث فى السودان مفاجأة لى، ولكثيرين ممن اهتموا بمتابعة أخبار هذا البلد العزيز على قلب كل مصرى، إذ كانت الأوضاع تمضى فى اتجاه بالغ السوء، ولا تنذر إلا بمزيد من الصراع والانهيار. كنت قد زرت السودان فى العام الماضى، حيث أمكننى أن ألتقى معظم أطراف العمل الوطنى وأعضاء الكثير من الأجسام السياسية الرسمية والثورية والشعبية، وقد اجتهدت فى تلخيص انطباعى عن تلك الزيارة وما أشارت إليه من دلالات عن مستقبل هذا البلد الشقيق، وعندما سعيت لكتابة مقال عن خلاصة هذه الزيارة، وما قادتنى إليه من توقعات، كان عنوانه «السودان على فوهة بركان»، وهو المقال الذى نُشر فى هذه الزاوية يوم 15 مايو الماضى.

ينبغى أن نأمل جميعا فى أن تتطور الأمور على النحو الصحيح فى السودان، وأن ينجح فى تخطى الأزمة الطاحنة الراهنة إلى خريطة طريق آمنة ومدروسة، يمكن من خلالها العودة إلى المسار السياسى وإصلاح الأوضاع.

والشاهد أن أى تحرك ثورى، ينتج تغييرا جوهريا فى الأوضاع السياسية، يظل فى حاجة ماسة إلى بيئة مواتية وحامية، وهو أمر يتعلق بدرجة الوعى العمومى، ومدى تقبل الديمقراطية، ونضوج المؤسسات، وحيوية الحياة السياسية والحزبية، وعدم خلط الدين بالسياسة، وحرية الإعلام ومهنيته، وتَمَكُن المجتمع المدنى، وعدم وجود تدخلات خارجية معوقة.

من حسن حظ بولندا أن بعض هذه المتطلبات توافرت لها، ومع ذلك فقد استغرق الأمر عقودا لإعادة البناء، الذى لم يبلغ مراميه ربما إلى الآن.

لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من البحث لمعرفة حجم الضغوط التى يعانيها السودان عشية اندلاع الحرب الأخيرة؛ فإضافة إلى ارتفاع نسبة التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، والتدهور القياسى فى سعر العملة الوطنية، وغلاء الأسعار، وغياب بعض السلع الضرورية، واضطراب الخدمات الحيوية، شهدت البلاد موجات متتالية من التظاهر، الذى تخللته بعض الاشتباكات وأعمال العنف فى عديد الأحيان.

فضلا عن وجود قوتين كبيرتين مسلحتين بطموحات وعلاقات خارجية وأهداف ومرجعيات متباينة. وقد انعكست تلك الصعوبات البالغة على شتى مناحى الحياة فى السودان، الأمر الذى أدى إلى تردى الحالة الأمنية تحت وطأة المصاعب الاقتصادية وانشغال قوى الأمن فى ملاحقة التظاهرات والاحتجاجات، كما تضررت الأوضاع الاجتماعية بشدة، فى بلد ظل يتمتع طويلا بميراث من الانضباط الاجتماعى.

لهذه الأزمات أسبابها السياسية بطبيعة الحال، وهى لم تتكاثر وتتفاقم إلا عندما تخلت السياسة عن دورها فى تنظيم الشؤون العامة، وصناعة التوافق والرضا العموميين، أو انصرفت إلى محاولة تأمين المناصب، وامتلاك النفوذ وصيانته، من دون أن ترسى استقرارا وتحقق إنجازا يقابل توقعات المواطنين.