رجب أبو سرية
تماماً كما تسعى الولايات المتحدة إلى "تحجيم" الصين اقتصادياً، وإخضاع روسيا سياسياً، وذلك حتى تتفرد بقيادة النظام العالمي، تسعى إسرائيل كمعادل إقليمي للولايات المتحدة كقائد كوني، إلى قيادة الشرق الأوسط، والهيمنة عليه، في ظل ذلك النظام العالمي الذي تقوده حليفتها الإستراتيجية، الولايات المتحدة، ولهذا فإن إسرائيل سعت منذ عقود، لإفراغ الشرق الأوسط من مراكز القوة، ولعبت دوراً أساسياً ومحورياً، في تحطيم كل الأنظمة التي كانت تكن لها ولأميركا في الوقت نفسه العداء، أو لا تخضع للإرادة الأميركية، ولا ترتبط مع إسرائيل بعلاقات دبلوماسية، بل وليس لديها استعداد للتطبيع معها، دون الحق الفلسطيني في إقامة دولة فلسطين المستقلة بعاصمتها القدس .
أولاً: دفعت إسرائيل بكل ما لديها من نفوذ داخل الولايات المتحدة، القوة الدولية العظمى، لتحطيم العراق بنظامه القومي الذي وقف دائماً في طريق أحلامها التوسعية، وناصر على الدوام الثورة والمقاومة الفلسطينية، ثم شاركت بهذا الشكل أو ذاك في تفتيت سورية، وكذلك ليبيا، وحتى مصر، حيث ما زالت تشجع بشكل خفي الإرهابيين المعادين للدولة المصرية، كما أنها تشد على يد أثيوبيا، وحاولت بقوة الدخول للاتحاد الأفريقي، عبر أمين عام الاتحاد الأثيوبي الجنسية، وهذا الفراغ في القوة الذي أحدثته بطريقة ما إسرائيل في العالم العربي، فتح لها أبواب التطبيع واسعة، من جهة، ومن جهة ثانية، أطلق العنان لأحلامها التوسعية الساعية للهيمنة على الشرق الأوسط بأسره.
ولهذا السبب بالضبط، تقيم الدنيا ولا تقعدها ضد إيران، لأنها ترى في إيران أولاً ومن ثم في تركيا ثانياً منافسَين إقليميَّين لها في المنطقة، فيما تظن أنه يمكن احتواء السعودية عبر سلسلة التطبيع الذي جعلت منه إسرائيل أولوية لها منذ بضع سنوات، أي بعد مرحلة "الربيع العربي"، وقد وصل هذا الاعتقاد لدى إسرائيل ذروته بعد أن نجحت في احتواء الإمارات والبحرين حليفتَي السعودية ضمن ذلك المخطط التطبيعي، وبعد أن تراجع الطموح التركي، بتآكل قدرة الإخوان المسلمين على تولّي أنظمة الحكم، في مصر وتونس وليبيا وسورية، حيث كان التدخل التركي واضحاً وجلياً في تلك الملفات، وحيث أن القوة التركية هي سياسية واقتصادية بالدرجة الأولى، فإن إسرائيل ما زالت تتعامل بحذر مع تركيا، فيما تواصل الحرب السياسية والإعلامية ضد إيران، عبر بوابة ملفها النووي.
أي أن حالة إسرائيل على الصعيد الإقليمي تشبه إلى حد بعيد حالة أميركا على الصعيد الكوني، وفي حين أن أميركا تواجه الصين بحذر وروسيا بسفور، تفعل مثلها إسرائيل في مواجهة إيران بسفور تام، وتركيا بحذر ما، أما دول الخليج فتتعامل معها إسرائيل، بعد التطبيع خاصة، ومع علاقات ما مع قطر وعمان، بما يشبه علاقة أميركا بأوروبا، وفعلاً كثيراً ما أشاعت إسرائيل فكرة الحلف الأمني مع دول الخليج، بما يشبه الناتو العربي، أو الناتو الخليجي.
وكما أن أميركا نسيت نفسها طوال ثلاثة عقود حاربت خلالها ما أطلقت عليه اسم الإرهاب الإسلامي، حيث اعتبرت العالم الإسلامي أكثر العوالم هشاشة وسهولة في مواجهة زعامتها المنفردة للعالم، تقدمت خلال تلك العقود الصين كعملاق اقتصادي، فيما تعافت روسيا من التبعية الأميركية، التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي، فيما واجهت إسرائيل بعد توقيع اتفاق أوسلو سلطةً لم ترفع الراية البيضاء، كذلك تعدداً فصائلياً فلسطينياً، رغم أن إسرائيل دفعت الحالة الفلسطينية إلى الانقسام، إلا أن أحداً من الفلسطينيين لم يتوقف عن المقاومة بأشكالها المتعددة، السياسية، الدبلوماسية، الشعبية، المسلحة، ميدانياً ورسمياً، كذلك بقيت الشعوب العربية حاجز صد أمام تحول التطبيع مع إسرائيل، سواء بنسخته الأولى القديمة مع مصر والأردن، أو بنسخته الثانية مع الإمارات والبحرين والمغرب، وبالطبع فإن الدول التي لديها شعوب ظلت تقاوم التطبيع وتمنع تحوله للمستوى الميداني الشعبي، رغم العقود التي مرت عليه في الحالتين المصرية والأردنية، ويحدث الأمر بشكل مشابه في حالتَي المغرب والسودان، وفقط ليس هناك من رد فعل شعبي في البحرين والإمارات، حيث تُعتبر الدولتان صغيرتَين، وبعدد محدود من المواطنين المترفين إلى حدود كبيرة، لكن الصد الخليجي الشعبي ظهر في مناسبة كأس العالم بقطر، كذلك في استمرار الصمود الكويتي العظيم، والتردد العماني، والتوقف القطري، والأهم هو عدم الاندلاق السعودي.
وقد راهنت إسرائيل ومعها أميركا في تتويج مؤامرة التطبيع باصطياد السمكة الكبيرة، أي السعودية، ووفق تقارير صحافية أميركية فإن السعودية أرادت الثمن الغالي، وهو مطالبة أميركا بالموافقة على إنشاء مفاعل نووي سعودي، كذلك تزويد المملكة بما تريده من طائرات حديثة، أي أنها سعت لاختراق التابو الإسرائيلي المتمثل بالإبقاء على التفوق العسكري الإسرائيلي على كل دول الشرق الأوسط مجتمعة، وذلك وفق تحالفها الاستراتيجي مع أميركا، وهي أي أميركا في سياق ترجمة هذا، لم تقم بتبديد مخاوف الإمارات والبحرين تجاه الجار الإيراني بتقوية إمكانيتهما العسكرية، كما تفعل أميركا مع أوكرانيا مثلاً، بل قامت بفتح أبوابهما للتوغل الأمني الإسرائيلي، وتشجيعهما على تطبيع مجاني دون دفع إسرائيل للتقدم في حل ملف صراعها مع الجانب الفلسطيني.
مؤخراً، وبعد أن يئست إسرائيل من قدرتها وبالمساعدة الأميركية على إقناع السعودية بالتطبيع، دون تلبية مطالبها سالفة الذكر، والتي بالطبع لا تريدها إسرائيل، لأنها بكل بساطة، لا تقبل أي قوة اقتصادية أو عسكرية لأي دولة في المنطقة، أعلنت أنها تركز على ضم كل من موريتانيا والصومال الدولتين العربيتين، وكل من النيجر واندونيسيا الدولتين المسلمتين لقطار التطبيع المنطلق إلى حيث الحرب الإقليمية في محطته الأخيرة، دون أدنى شك.
وظنت إسرائيل بأن ذلك سيسقط بيد السعودية، بإظهار أن الدولة العبرية لم تعد مهتمة، أو أنها ليست متلهفة لضم السعودية لذلك القطار المريب، لكن السعودية ردت بما أطار "سكرة التطبيع" مع الدول الأربع سالفة الذكر_ولا ندري هنا ما هو السر في "رباعيات التطبيع"، فكان التقارب الذي أعلنت عنه كل من السعودية وإيران ومن بكين، بمثابة الصخرة التي ألقيت على رأس إسرائيل، تماماً كما تظهر في الأوساط الأميركية المخاوف من أي تقارب صيني روسي، أظهر التقارب بين إيران والسعودية حيث أعلن الطرفان عن فتح السفارات بين البلدين خلال شهرين، تباينت التقديرات الإسرائيلية حول أسباب ذلك الحدث، وفيما حمل البعض حكومة يائير لابيد السابقة الفشل في ضم السعودية للتطبيع، قال البعض إن السبب يعود إلى أن السعودية تلاحظ ضعفاً أميركياً إسرائيلياً، لذا بحثت عن آفاق أخرى، لكن الأهم بتقديرنا هو ما قاله روعي كايس معلق الشؤون العربية في "قناة كان" الإسرائيلية، الذي راهن على عدم تنفيذ الاتفاق بفتح السفارتين خلال شهرين قادمين.
ولعل إسرائيل بما قاله كايس تراهن على تدخل أميركي لدى الرياض لمنع افتتاح السفارتين، أو تدخل إسرائيل نفسها لدى الصين الدولة الراعية للاتفاق الإيراني السعودي، وإن كان ذلك غير محتمل بتقديرنا، لأنه لا يوجد لدى إسرائيل ما تقدمه للصين، المهم أنه لا بد من القول، بأنه كما أن الولايات المتحدة تواجه تحديات تحول دون طموحها وسعيها للهيمنة على العالم، عبر نظام عالمي أحادي القطب بقيادتها، فإن إسرائيل وبالإسناد الأميركي، بإقناع واشنطن بأن هيمنتها على الشرق الأوسط أحد أركان النظام العالمي الأميركي، لن تنجح في مسعاها ذاك، ذلك أن تقاطع الدول المنافسة إقليمياً لإسرائيل مع الدول المنافسة كونياً لأميركا، إنما هو تحالف في الاتجاه المعاكس، إن لم ينجح في وقف طموح أميركا وإسرائيل، فإنه سيعرقله ويحد من آثاره وتأثيراته الخطيرة جداً على الآخرين.