طلال عوكل
العاشر من آذار هذا العام 2023، يومٌ للتاريخ، لكونه أحدثَ زلزالاً قوياً في إسرائيل وواشنطن، بعد سبعة أعوام عِجاف من الصراع، والمخاوف، وتيه الخيارات والمراهنات، يعلن الطرفان المتخاصمان على ضفّتي الخليج العربي: المملكة العربية السعودية وإيران، اتفاقاً برعاية الصين، يُعيد العلاقات إلى طبيعتها.
الاتفاق برعاية صينية لم يكن اتفاقاً لعودة العلاقات الدبلوماسية وحسب وإنما يتّسع ليشمل تنشيط العلاقات التجارية والاقتصادية والإنسانية، وربما يتضمن ضمانات أخرى ذات أبعادٍ أمنية عسكرية، ووعوداً بمعالجة أزمات كبرى في المنطقة.
صحيح أن هذه الخطوة المهمة، تسجّل نجاحاً للصين، على حساب الولايات المتحدة، في ظلّ التنافس والتوتّر المتصاعد بين العملاقين، في منطقة حسّاسة جداّ واستراتيجية، ولكنه، أيضاً، ينطوي على تحوّل مهم جدّاً، بالعلاقة مع الصراع العربي والفلسطيني الإسرائيلي وقضايا المنطقة التي تضجّ بالأزمات.
يحصل هذا التطبيع في علاقات الدولتين المهمّتين على الصعيد الإقليمي والإسلامي والعربي والدولي، بينما كانت إسرائيل تتطلّع لتطبيع علاقاتها مع العربية السعودية، وأربع دول عربية وإفريقية أخرى.
إسرائيل التي دخلت أزمة عميقة تتزايد حِدّتها، وتتّسع تأثيراتها على التماسك المجتمعي، وتماسك أجهزة "الدولة العميقة"، وتصعّد من حروبها العنصرية الفاشية ضد الشعب الفلسطيني.
في إسرائيل سقط خبر تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية، على رؤوس الجميع حكومةً ومعارضة.
الحكومة العنصرية الفاشية تتهم حكومة يائير لابيد المنحلّة والإدارة الأميركية، بالمسؤولية عن الفشل، بينما تتهم المعارضة بزعامة لابيد حكومة بنيامين نتنياهو بالتسبُّب بالفشل الذي يحمل لإسرائيل المزيد من مؤشّرات الخطر على وجودها.
تعتقد الطبقة الحاكمة في إسرائيل أن بإمكانها، وهي تستند إلى التدخلات القوية الأميركية، ضم السعودية إلى قافلة "التطبيع" من دون أن تدفع الثمن، لكنها لا تدرك أن الزمان قد اختلف وأن المتغيرات الدولية والإقليمية تحمل لمن أراد خيارات أخرى، وتحالفات أخرى، ورؤية أخرى لكيفية التعاطي مع المصالح الوطنية.
السعودية دولة كبيرة، تملك إمكانيات اقتصادية وعسكرية وبشرية كبيرة في المنطقة، ولا يمكن مقارنة دورها بأدوار دول أخرى في المنطقة، استعجلت خيار "التطبيع".
حلُمَت إسرائيل يوماً أن تكون جزءاً، بل الجزء الأكثر فاعلية، في "تحالف سنّي"، بإشراف ودعم من الولايات المتحدة، بضمّ السعودية بالإضافة إلى دول أخرى أغلبها عربية، غير أن هذا الحُلم تبدّد وتحوّل إلى كابوس.
السعودية وفق رؤيتها لدورها ومكانتها كانت قد اشترطت لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، أن توافق الأخيرة على حلّ سياسي يؤدّي إلى إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة العام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وبالإضافة إلى ذلك، الموافقة على تدشين برنامج لامتلاك قدرات نووية لأغراض سلمية.
إسرائيل التي ترفض رفضاً قاطعاً أن تمتلك إيران أو السعودية أو أي دولة عربية، ما يُمكّنها من امتلاك قدرات نووية حتى لو كانت سلمية، لم يكن لها أبداً أن توافق على الشروط السعودية، لا فيما يتعلّق بامتلاك برنامج نووي ولا، أيضاً، بالنسبة للموضوع الفلسطيني.
لا تثق الطبقة السياسية في إسرائيل بأي دولة أخرى في المجال الحيوي للصراع الشرق أوسطي، وهي لا تثق إلّا بقدراتها العسكرية والأمنية، التي ينبغي أن يظلّ تفوُّقها هو الضمانة لدورها وأطماعها ووجودها.
وفي مجال الحديث عن الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي لم يعد في قاموس القوى والأحزاب الإسرائيلية الفاعلة أي إمكانية لتحقيق تسوية مع الفلسطينيين أو غيرهم من العرب، تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية، أو إعادة الأراضي العربية التي تحتلها بالقوة، وبالضد من القانون الدولي.
وفوق هذا أو ذاك تتربّع على إسرائيل منذ شهرين حكومة عنصرية فاشية تتطلّع إلى التوسع في الإقليم تحقيقاً للمشروع الصهيوني الذي يتجاوز في أهدافه الأراضي العربية من الفرات إلى النيل.
لا شكّ في أن عودة العلاقات والحوار بين الدولتين الكبيرتين السعودية وإيران، من شأنه أن يُحدث تأثيرات بعيدة المدى على واقع الشرق الأوسط، ويعرّض الإنجازات التي حققتها الحكومات الإسرائيلية في ملف "التطبيع" للخطر والتراجع:
أولاً، مثل هذا الاتفاق يؤشّر على فقد السعودية ومن بعدها دول المنطقة، الثقة بالولايات المتحدة وحلفائها بما في ذلك إسرائيل.
ثانياً، يُحرّر هذا الاتفاق السعودية، من الارتهان الحصري للسياسات الأميركية الأنانية، التي لا تراعي حقوق ومصالح شركائها، وي فتح على خيارات أخرى تعزّز المصالح القومية للسعودية التي لا تخطئ في قراءة المستقبل، الذي يتجه نحو تقويض الاحتكار الأميركي للنظام الدولي.
ثالثاً، من شأن هذا الاتفاق أن يُفقد إسرائيل الذرائع والمبرّرات التي تبحث عنها، لافتعال صراعات حربية ضد إيران، بل ويعطي مصداقية للخطاب والتعهّدات الإيرانية، ولأولوية الدبلوماسية في التعاطي مع الملفّ النووي الإيراني.
رابعاً، يُعيد الاتفاق السعودي الإيراني، تصويب الانحرافات التي وقعت فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، ويعيد الألق والدعم للشعب الفلسطيني.
خامساً، من شأن هذا الاتفاق أن يفتح الطريق واسعاً أمام معالجة ملفّات وأزمات معقّدة كلّفت الطرفين، خصوصاً السعودية أثماناً باهظة. يتقدّم هذه الملفات الملف اليمني، ويمكن أن تتوفر الثقة أكثر لمعالجة ملفي سورية ولبنان، وملفات أخرى أرهقت المنطقة.
سادساً، لا شكّ في أن هذا الاتفاق ستكون له آثار سلبية على علاقات إسرائيل مع الدول حديثة "التطبيع"، وربما سيؤدي إلى تردّد دول أخرى مرشّحة لـ "تطبيع" علاقاتها بإسرائيل، بضغط أميركي.
سابعاً، ينطوي الاتفاق على تأثيرٍ واضح، على سوق الطاقة وأسعارها، والتبادلات التجارية، ويشجّع دولاً أخرى على التمرُّد على السياسة الأميركية و"الغربية" عموماً، ويحسب في صالح السياسات الصينية والروسية التي تناضل من أجل تغيير النظام الدولي "أحادي القطبية" إلى نظام "متعدّد الأقطاب".