أول الرصاص
تاريخ النشر : 10 نوفمبر, 2022 08:38 صباحاً

يتعب الجسد فتغويه هدأة الليل الطويل يتعب النبض فيغادر على أطراف أصابعه يتعب القلب فيخون ينوء الجسد بعمر واحد فكيف يحتمل رجلاً يخفي في شرايينه شعباً من الأعمار وشلالات الرصاص وقبائل الأحلام وأوجاع المخيمات.. وتبرم الشرفات من فرط الانتظار كيف يحتمل الجسد عمراً مدججاً بعيون الشهداء ومناديل الأمهات وتنهيدات الزيتون وبكاء العصافير الأسيرة قبالة البحر الأسير.

 قبل أربعة عقود تسلل الى بلاده المحتلة رأى التراب حزيناً والشبابيك خائفة والطرقات حائرة ورأى الاحتلال يسرق القرميد ويزور الأوراق والعصافير والغيوم كان ذلك الموعد مع بلاده حاسماً وقاتلاً اقسم ان يستعيدها وأن يعود

ياسر عرفات لم يكن رجلاً عادياً كان عاصفة جوالة داهمت المخيمات فلمعت فيها البنادق والعيون داهمت اليائسين فأورقت أيامهم بعد يباس.. لن يرتاح ولن يترك أحداً يرتاح سيقرع كل باب وسيغتنم كل فرصة سيتسلل الى كل تجمع ومحفل وفي وجه النسيان الشاسع سيرفع خريطة بلاد شطبت من جغرافيا العالم.

كان يدرك انه يرتكب حلماً ممنوعاً وكان يدرك انه زائر متعب ومحرج وأن العالم يفضل غسل يديه من الجريمة الشاسعة وأن يكفنها بالنسيان وكان يدرك قصة القيود وقصة الحدود وان قبضته تضرب جبالاً من رخام وضميراً من رخام.. لكنه انطلق كرصاصة لا يمكن استردادها.. كعاصفة ترفض النوم إلا في الوادي الذي تحب.

ارتكب الرجل جريمة شاسعة أيقظ الحلم واطلق شياطينه. بعدها ستكر المواعيد. "فتح" والرصاصات الأولى معركة الكرامة وقيادة منظمة التحرير وكان على العاصفة ان تقيم على شفا الوطن لتتسلل ليلاً اليه.

كانت المعارك طويلة ومريرة وكان ياسر عرفات فيها ظالماً ومظلوماً وفي أحلك الساعات كان يلوح بشارة النصر ويزعم انه ذاهب الى القدس. وكانت تلك صلابة الفدائي وطمأنينة العاشق المؤمن.

 سيفتقد الفلسطينيون قائداً شجاعاً ومقاتلاً صلباً ومفاوضاً بارعاً سيفتقدون أيضاً رباناً يجيد السباحة بين التوازنات والاشراك يخطئ ويصيب ويصحح.. لكن غاب حارس الحلم الفلسطيني على مرمى حجر من الموعد الآتي وإن تأخر لم يحلم بقصر في فلسطين حلم بقبر في القدس ومن عادته ان لا يرضخ للظلم ومن يدري فقد يتسلل قبره غداً الى الأقصى.. غاب حارس الحلم الفلسطيني غاب ياسر عرفات وكان أول الرصاص وأول الحجارة وأول الدولة.