فتح ميديا_الداخل المحتل
يونس أبو ربيعة (أبو محمد) الطبيب الفلسطيني الأول من صحراء النقب داخل أراضي 48 يرمز في سيرته ومسيرة أسرته لملحمة البقاء والتطور لفلسطينيي الداخل وهم يتسلقون الجدران الملساء ويخترقون حدود اليأس مراكمين منجزات في العلم والعمل وتثبيت البقاء في وجه مخططات الاقتلاع والتطهير العرقي.
بعد نحو أربعة عقود من العمل في الطب أنهى دكتور يونس أبو ربيعة عمله رسميا لكنه يواصل التطوع في مجال الخدمات الطبية والاجتماعية، ويتحدث عن تجربته الملهمة بحلوها ومرّها ويشير بداية لكونه كبقية أترابه ابن عائلة مباركة الأبناء: ثلاث بنات وثمانية أولاد سكنوا داخل بيت شعر واحد في قبيلة أبو ربيعة التي عرفت لاحقا بقرية كحلة.
وأنت على ضفاف الصحراء تقيم في مدينة بئر السبع فهل عندك حنين للحب الأول… للحياة في الصحراء؟
“طبعا. لم تخرج الصحراء من وجداني يوما. أحيانا أذهب لـ”الشق” وهو كخيمة صغيرة داخل كرم زيتون أقوم بزيارته مرة في الأسبوع وفيه “سدة” أي ساتر ترابي في مسار الوادي كي يتم تجميع مياه المطر خلال الشتوية لترتوي أشجار الزيتون. كان والدي يملك كرما فيه ثمار، تفاح وخوخ ومشمش وأحيانا لم يصدق من يزورنا أن هذه الثمار تنبت في الصحراء في قريتنا “كحلة”. تربة الكرم صالحة خاصة أنها مجاورة للجبل وكنا ننشل مياه البئر الروماني القديم وننقل الماء على الحمير ونسقي الأشجار. وما زالت بعض الآبار مستغلة حتى اليوم. الفلاحة أهم هواياتي وقد مارستها وأنا طبيب لكنني اليوم متفرغ لها وأملك حوالي 200 شجرة زيتون وبها أشعر بأنني أغنى رجل في العالم”.
بيت الشعر
وأوضح أبو ربيعة أنه ولد في قبيلة أبو ربيعة قريبا من بلدتي عراد وكسيفة، حيث بقي يقيم مع الأسرة داخل “بيت شعر”، تعلم حتى الصف الخامس وهو المتوفر هناك وقتها. وعن دور والده بتعلمه يقول “علمّنا والدي لأنه تعلم هو الآخر حتى الصف الخامس واكتشف قيمة العلم ورغب بنقله لنا وكان والدي يدرس قبل النكبة لدى شيخ في كتاّب داخل بيت شعر في العشيرة. في الروضة وفي الصف الأول وقبيل الانتقال لابتدائية كسيفة تعلمت داخل بيت شعر. كان الشيخ يعلمنا تطوعا وكان عدد التلاميذ قليلا”.
وردا على سؤال يوضح أن أهالي النقب يسمون بيتهم بيت الشعر لا الخيمة فهذه لا تعني أي انتماء بعكس البيت. ويضيف في هذا المضمار “حتى اليوم وأنا في بئر السبع يفرحني سماع الكلاب في الصحراء وهي تعوي في الليالي فصوتها يدلل على سماع غريب وبنفس الوقت هي تناجي العتمة أو الضوء. كذلك هطول المطر وسماع القطرات على بيت الشعر كان يدهشني ويطربني. كان بيت الشعر مضبوطا لأنه مبني بشكل هندسي يؤدي لسقوط مياه المطر على الجنبين. أقمنا داخل بيت الشعر: 11 نفرا يتحلقون في الليل حول ضوء “لوكس” يعمل بفتيلة. كنت أدرس من الثمانية الصبح في ظلال أشجار الزيتون أو أضع غطاء على الشجرة واستظل فيها. في الليل لا مجال للدراسة لأنك لا تستطيع أن ترى كثيرا وكذلك القنديل معد لكل العائلة لا لك فحسب”.
وأشار إلى أن مدرسته الابتدائية كانت موجودة في قرية كسيفة أما معلموها فقدموا بالأساس من منطقة المثلث في مركز البلاد منهم صبحي منصور ولضيق الحال كانوا يجمعون التلاميذ كل صفين في صف واحد. ويضيف “كنا نذهب لكسيفة على الأقدام أو على الحمير وأذكر ما يشبه الحظيرة داخل ساحة المدرسة حيث وقف 50/60 حمارا وهي وسيلة النقل الأساسية. لكن الأهم أن هؤلاء التلاميذ كانوا متعطشين للتعلم وكذلك المعلمون كانوا مؤمنين ومخلصين بعملهم وأذكر المعلم صبحي عبد الفتاح من الطيرة وكل المعلمين كانوا من الشمال. كما أذكر الأستاذ عادل برانسي من الطيبة ووقتها بلغ تعداد المعلمين ثلاثة أربعة فقط وأصلا عدد التلاميذ لم يتجاوز 30 تلميذا. وقتها نام المعلمون في المدرسة وقد بنيت منذ فترة الانتداب لكن أغلب الأوقات كان الأهالي يستضيفونهم ويبيتون عندهم”.
ثورة البنات
وردا على سؤال يوضح أبو ربيعة أن البنات وقتذاك لم يتعلمن أما أخيه الكبير فتعلم معه في التيراسانطا وصار كهربائيا وشقيقه عارف هو اليوم بروفيسور في جامعة بن بئر السبع وله أخ معلم وأخ يعمل في منظمة العمال وأصغرهم عزات وهو مرشد سياحي. وعن قصة تعلم الفتيات يضيف “عندما بدأوا بتعليم البنات كان مسموحا للخامس فقط ومن تعلمن في الجامعة كن قليلات جدا وربما أمل الصانع أولاهن أما اليوم فإن 60% من طلابنا في الجامعات فهم بنات وهكذا في الثانوية.
وحرص دكتور أبو ربيعة على تشجيع بناته على التعلم وبلوغ أعلى المراتب فسراب بروفيسور علم اجتماع في جامعة بئر السبع ويقول إنه أسماها “سراب” باسم صحراوي، صفا دكتورة في انتروبولوجيا ودرست في الولايات المتحدة وتعمل في معهد فان لير، راوية دكتورة في الحقوق ومحاضرة جامعية، رمزية مفتشة روضات في النقب أما محمد فهو صيدلي ولم يرض أن يصبح طبيبا رغم أني حاولت أن أعمل له “غسيل دماغ” كي يدرس الطب لكه كان يرفض ويقول: لوالده معاشه بعد خمس سنوات يعادل معاشي بعد 15 سنة من العمل في الطب”.
منوها إلى أنه منذ 25 سنة بدأن يعملن ومن وقتها حصل انقلاب وصرن يذهبن للجامعات وصار الاعتبار الاقتصادي مهم وتغيرت العقلية بعدما تراجع نفوذ الشيوخ وهذه هي مرحلة الانتقال من البداوة للحضارة”.
مدرسة تبشيرية مسيحية في الناصرة
انتقل بعدها هو ومجموعة طلاب للقسم الداخلي في مدرسة تيراسنطا في مدينة الناصرة. ويستذكر انقطاعه الطويل عن عائلته وهو طفل حيث كان يعود تلاميذ النقب من الناصرة البعيدة عنهم مرة في الشهر وردا على سؤال حول تجربة الانتقال من البادية إلى المدينة بعيدا عن حضن الوالدين، يقول دكتور أبو ربيعة إنه بعد الحرب العالمية الثانية صار الرهبان مديرو مدرسة التيراسانطا (الأراضي المقدسة) في الناصرة متدينين جدا أما المعلمون فهم ليسوا رهبانا ومنهم يوسف الزهر من الناصرة وحبيب قهوجي أحد مؤسسي حركة “الأرض” الذي غادر لاحقا للبنان والتحق بمنظمة التحرير الفلسطينية.
وعنهم وعن تجربته يقول أبو ربيعة “علمنا قهوجي لغة عربية، كانوا معلمين مخلصين، لكن التأقلم في الناصرة صعبة فقد قدمنا من الصحراء مع المعايير والقوانين الخاصة بنا لنجد تقاليد حياة مغايرة في الناصرة غريبة عنا جدا. كذلك طلاب المدرسة من الناصرة ينظرون لنا نظرة غريبة ولكننا تأقلمنا. وقتها كان عدد من التلاميذ في النقب وسبقتني دفعة من 12 تلميذ من النقب منهم موسى وسليمان أبو عجاج وعيد ومحمد أبو ربيعة. في دفعتي كان معي أولاد المشايخ أو من لهم قدرات مالية منهم أبناء عمي بدأ بعضهم التعلم في الخامس وبعضهم في السادس”.
حرب السويس
وعن المصاعب يستذكر أبو محمد قلق عائلته وبقية العائلات بعدما نشبت حرب السويس 1956 وهم بعيدون عنهم وكانوا يخشون من التهجير والانقطاع بيننا ويتابع “بعث الشيوخ عدد من الرجال في سيارة تندر لإعادتنا للنقب. في الطريق كانت حواجز عسكرية فاعتقلوهم واقتادوهم إلى حرش وأدركوا أنهم سيقتلون فقالوا كما رووا لنا لاحقا: نحن مبعوثون من الحاكم العسكري في النقب ومتعاونون معه ومعنا رسالة للقيادة العسكرية فدعوهم لقيادة مركبتهم أمامهم في التندر لكن عمي قاد السيارة بسرعة وهرب منهم”.
كما يقول أبو ربيعة في سياق استعادة مصاعب تلك الفترة القاسية في ظل الحكم العسكري إن مدير المدرسة في التيراسانطا من ايرلندا ووقت الحرب كان يشتم العرب بالانكليزية كل صباح بسبب توجهاته الصهيونية. ويضيف “وقتها كانت فرنسا وبريطانيا تناصبان العداء الشديد لعبد الناصر ولكل العرب. كان يستفزنا لكننا لم نجرؤ على مناقشته خوفا من الطرد. اصطحبونا في سيارة التندر 20 راكبا داخلها ووصلنا البيت فوجدنا 500 شخصا ينتظروننا بعدما كانوا يظنون أو يقتنعون أنننا لن نرجع خاصة أن المسافة بعيدة في تلك الأوقات والخوف من أحداث النكبة ما زال حاضرا في الوعي”.
بعد إنهاء المرحلة الثانوية بدأت مرحلة إضافية من الغربة والبعد عن البيت والبيئة الحياتية الأولى وعن الديرة بعد ذهابه للجامعة وردا على سؤال لماذا اخترت دراسة الطب قال: “كان طبيب يزور منطقة النقب وقتها وكنت اترجم من الانكليزية التي امتلكتها في “التيراسانطا” للعربية وبالعكس وهذا سبب حبي لمهنة الطب. كان الطبيب يزور القبائل البدوية في النقب وأنا ما زلت تلميذا. في الصف العاشر بدأت أحضّر حالي وأقرأ مواضيع علمية وشجعني أهلي ولم يكن أي طبيب بدوي في النقب. في الجامعة العبرية زاملني في فوجي الدكتور إميل خوري من طرعان. أول سنة رسبنا في الامتحانات فتعلمت بيولوجيا وفي السنة الثانية انتقلت لكلية الطب”.
التأقلم في الجامعة
“كانت تجربة صعبة حينما وصلت الجامعة العبرية في القدس عام 1964 وكان قد سبقني بعض الطلاب العرب في كلية الطب. حالتنا المادية كانت جيدة ولذلك لم أشعر بالضغوط. والدي ليس شيخا إنما عمي لكن والدي ربى ماشية وكان يبيع الحلال وكان تجارا يأتون من شمال البلاد والناصرة لشراء الأغنام ووقتها كانت الزراعة للاستهلاك المحلي. لكن تربية المواشي وقتها كانت مربحة لأن إسرائيل في سنواتها الأولى عقب النكبة في فترة التقنين تعاني من نواقص كثيرة منها اللحوم. أذكر في طفولتي أن السلطات الإسرائيلية كانت تسمح لقبيلتنا استيراد جمال من العراق عن طريق التهريب من الأردن. كان ذلك تهريبا لأن إسرائيل كانت معنية باللحوم بأي طريقة. كانوا يهربون كل أشياء حتى الراديو. أذكر أن الحاكم العسكري الإسرائيلي ساسون بار تسفي كان يزورنا في النقب ونعطيه كهدية لحوما ملء سيارته فيوزع على جيرانه اليهود في بئر السبع مقابل صرف النظر عن التهريب من الأردن من أجل البقاء”.
أنهى أبو ربيعة الدراسة في الجامعة العبرية ووقتها أعطوه منحة للعمل لدى مجتمعه وفعلا تطوع في السنة الأولى في تقديم خدمات طبية في عدة مراكز لأنه وقتها لم تكن صناديق مرضى وأحيانا كان يقوم بزيارة المرضى في بيوتهم”. وردا على سؤال يوضح أبو محمد إنه لم يعمل خلال فترة دراسته الجامعية بخلاف طلاب آخرين ممن عملوا في الحراسة غير أنه عمل مرة واحدة حارسا لمدة شهر خلال رمضان ثم توقف منوها أنه عمل في ذاك الشهر كي يكف ألسن الطلاب عنه وهم يشكون أنه بعكسهم لا يعمل وأنه “ابن دلال”.
ممرض أم طبيب؟
وفي سيرة التعلم يكشف أبو محمد إنه عندما تقدم للخطوبة من فتاة عمره جيهان محمد عبد القادر اللوباني من مدينة الناصرة تردد الأهل بعدما خالوا أنه ممرض لا طبيبا فلم يصدقوا أن البدوي صارا طبيبا لكن عمه والد زوجته كان واعيا وسارع للموافقة. ويتابع “في البداية استصعبت زوجتي التأقلم في النقب وما لبثت أن اعتادت وهي الأخرى ترى بزيارة الصحراء متعة حقيقية”.
عمل الدكتور أبو ربيعة نحو أربعة عقود في مستشفى بئر السبع وفي عيادات متنوعة وتخصص بأمراض السكري وهو اليوم يعمل 20 ساعة في الأسبوع كمستشار طبي منذ أن تقاعد، لافتا لوجود طلب كبير في البلاد على الأطباء حتى لو تقاعدوا لقلة عددهم، ويضيف مبتسما فخورا “كنت يوما طبيبا يتيما في النقب واليوم هناك مئات الأطباء بعض عشرات منهم طبيبات”. ويشير لامتيازات فترة التقاعد منوها للفرصة في ممارسة الهوايات ومنها الزراعة وسماع أم كلثوم ووديع الصافي وفيروز.
وعن ذلك يقول “أحب سماع الأغاني لوحدي كي لا يزعجني. أنا مجنون بأم كلثوم لأني كنت أسمعها بترانزيزتور أيام الجامعة وكانت رفيقتي وتسهر معي واستلهم منها بعض الأفكار مثل السهر حيث هي غنت قصيدة” وما أطال النوم عمرا ولا قصّر بالأعمار طول السهر” ويتابع “الموسيقى الجديدة لا تطربني.. ربما كاظم الساهر. أحب وديع الصافي لأن أغانيه فيه حنين للماضي. كنا في الصحراء نقيم في الشتاء في مكان معين وفي الصيف نرحل وكان الرحيل يوجعنا.. ووديع الصافي يعبر بموسيقى وأغاني فيها حنين وشجن ويدغدغ مشاعري… كمن كان يحب مرأة لكنها تزوجت وراحت قبل زواجي.
الطبيب الفلسطيني البدوي الأول: أنا فلاح وما زالت الصحراء تستهويني
تاريخ النشر : 05 يوليو, 2021 04:54 صباحاً