بقلم/ عماد سليم محسن الناطق باسم تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح
لم يتفاجأ الجمهور الفلسطيني بكثيرٍ من الحقائق التي أوردها الجزء الأول من التحقيق " الرواية المفقودة"، الذي بثته قناة الكوفية مساء الاثنين الموافق 28 ديسمبر 2020، فالجميع يعرف القيادي الفلسطيني محمد دحلان، وعايشه الكثيرون عن قُربٍ لسنوات، شاهدوه وهو يناطح ظروف العيش القاسية في المخيم، وتأملوه جيداً وهو يخطو خطواته الأولى في رحلة تأسيس الشبيبة الفتحاوية، وتوقفوا طويلاً أمام مشاهد اعتقاله من طرف الاحتلال المرة تلو الأخرى، وتابعوا بتعاطفٍ كبير رحلة ابعاده عن قطاع غزة، واستمعوا إلى كل الروايات المتعلقة بوجوده في مكتب غزة بتونس لمتابعة ورعاية انتفاضة الحجارة، وعاشوا معه تجربة العمل في جهاز الأمن الفلسطيني، وواكبوا رحلة صعوده السياسي بجوار الشهيد ياسر عرفات، وصولاً إلى فوزه في انتخابات المجلس التشريعي وحصوله على عضوية اللجنة المركزية لحركة فتح في انتخابات المؤتمر السادس للحركة.
الجديد الذي يمكن التوقف عنده في هذا التحقيق هو شأن يتعلق بالجانب السيكولوجي في شخصية صانع القرار، وهو مفيد جداً لكل المهتمين والباحثين في الشؤون الإنسانية والنفسية وسيكولوجيا القيادة، والمقصود هنا شخصية الرئيس محمود عباس، فمن زاوية أظهر التحقيق صفة لا يجب أن تتوافر في شخصٍ ينتمي إلى حركة تحرر وطني تستند في نضالاتها إلى مناصرة العالم باسم الإنسانية، وهي نكران الجميل، والتنكر لأشخاصٍ وقفوا بجواره في الوقت الذي لم يكن هناك واحد من أعضاء الحركة مستعد لمساندة الرجل، الذي عُرف عنه غيابه عن المحافل ذات الطابع الجماهيري وعدم قدرته على العيش في الأوساط الشعبية، والدليل على ذلك أنه ومنذ توليه مهام القيادة لم يفكر يوماً في زيارة أحد مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية أو حتى زيارة المدن القريبة من رام الله، واكتفى بوجوده الدائم في مقره بالمقاطعة، بعيداً عن نبض الشارع وهموم المواطن.
الأغرب، وهذا أورده التحقيق بشكلٍ لا يقبل التأويل، أن الرجل بدلاً من يحفظ الجميل ويصون العهد، انقلب على من كان سبباً رئيسياً في وجوده على رأس المشهد الفتحاوي والوطني، وبرغم محاولات كل رؤساء وأعضاء لجان التحقيق، وكلهم أعضاء في اللجنة المركزية للحركة، ثنيه عن قرارات الفصل والتجميد، إلا أن محاولاتهم جميعاً باءت بالفشل أمام مخزون الحقد الشخصي الذي ملأ على الرجل كيانه كله، إلى درجةٍ كان مستعداً فيها أن يحرق كل القوانين والأنظمة ويدوس على كل اعتبار تنظيمي أو وطني في سبيل التخلص من الرجل الذي ضغط من أجل هودته إلى الوطن، وساهم في ترشيحه لكل المواقع، وقاد بنفسه حملة الترويج له ليكون رئيساً للسلطة الوطنية، وخليفةً للزعيم الخالد ياسر عرفات، ويبدأ بمحاولات اقصائه ورفاقه عن قائمة الحركة لانتخابات المجلس التشريعي، واستبدالهم بشخصياتٍ أحفويةٍ كرهتها الصحف والمجلات ووسائل الإعلام التي واكبت فشلها على مدى سنواتٍ طويلة، ومقتها طوب الأرض الذي لم تدوسه أحذيتها التي كانت تخشى أن تتغبر في أزقة المخيمات، وما أن عجز عن الاقصاء، حتى أصر على تنظيم انتخاباتٍ كانت فتح أبعد ما تكون عن إمكانية الفوز بها، لاعتباراتٍ تتعلق بعدم قدرتها على تسديد فاتورة التواجد في سلطة شاب عملها الكثير من الملاحظات خلال ثلاثة عشر عاماً من تأسيسها بعد اتفاق أوسلو، ومع هذا الإصرار جرت الانتخابات، وخسرت فتح، لكن المصيبة الكبرى كانت للرجل أن رأي في المجلس التشريعي أخر من يتمنى رؤيته، الذي جاء فائزاً بأعلى الأصوات في دائرته الانتخابية "خان يونس".
بدأت محاولات أخرى لإقصاء الرجل ورفاقه في مرحلة ما بعد وقوع الانقسام، ومحاولة تحميله مسؤولية الانهيار الذي أصاب أجهزة السلطة، لكن لجنة التحقيق كادت أن تدينه هو وليس خصمه في هذه الأحداث، فتوقف الأمر عند هذا الحد، على أمل أن تسنح فرصة أخرى للانقضاض على خصمه، فكان المؤتمر السادس للحركة في بيت لحم، يوم أن خاطب محمد دحلان أعضاء المؤتمر بالقول: "اسمعوا منا ولا تسمعوا عنا"، ويفوز في انتخابات اللجنة المركزية، ويحاول إبعاد محمد دحلان عن مسؤولية مفوضية التعبئة والتنظيم التي تتابع العمل التنظيمي في مفاصله كافة، فكان أن تم تكليفه مفوضاً للإعلام في الحركة، لتشهد هذه المفوضية نقلةً نوعية في عهده، ويتم تكليف ناطقين جدد باسم الحركة على يديه، هم ذاتهم من خرجوا يتطاولون عليه بعد أن بدأت قرارات التجميد والفصل تدخل حيز التنفيذ، ويضطر الرجل العنيد إلى انتظار فرصة أخرى للانتقام من دحلان الذي قال عنه يوماً: "لم يكن عباس يشعر أنه رئيس في وجودي على الطاولة".
جاء تقرير الحقوقي الدولي غولدستون، الذي يدين إسرائيل لأول مرة بارتكابها مجازر ضد الإنسانية في عدوانها على غزة، على شكل مصفوفة عدالة تأتي متأخرة للشعب الفلسطيني، ويرحب محمد دحلان باسم فتح وإعلامها بنشر التقرير، ويكون عباس قد وافق سراً على تجميد مناقشة التقرير في جنيف، ويشعر عباس بكم الخزي الذي سيترتب على سلوكه المخالف لكل قوى الشعب الفلسطيني والرأي العام الوطني، ليبث شكواه إلى القيادي الفتحاوي سمير المشهراوي مردداً: "صاحبك كشف ظهري أمام الناس"!!، وتبدأ هنا رحلة البحث عن أي مبررٍ حتى لو كان واهياً للتخلص من محمد دحلان، وتشكل لجنة استماع، ثم تعجز عن الإدانة، فتتحول إلى لجنة تحقيق، فلا ترى في تقارير عباس ما يشير إلى إدانة دحلان، بل إنها رأت، وعلى لسان رئيسها عزام الأحمد، أن ما رغب عباس في إدانة دحلان به، هو ذاته يُدان به بحكم مسؤولياته، ويأتي دحلان ويجلس إلى اللجنة، ويسمع منها كلاماً طيباً بعد أن استمعت إلى ردوده الوجيهة على كل استفساراتها، فماذا كانت النتيجة؟ اعتقال مدير مكتب دحلان، وجلب شهود زور ليشهدوا ضده، وتلفيق التقارير التي فبرك بعضها عضو لجنة مركزية بيديه (ذهب إلى جوار به وأصبح نسياً منسياً) من أجل إكمال الفبركات، وصدرت القرارات التي لم يرها أحد ولم يطلع عليها أحد سوى رئيس الشاباك الإسرائيلي يوفال ديسكن، وتمرر القرارات التي عارضتها أغلبية أطر الحركة، بما فيها اللجنة المركزية والمجلس الثوري، ليتحقق لعباس من أراده منذ البداية، وهو التفرد بالقرار الحركي والوطني، وإقصاء كل من يخالفه الرأي، واللجوء إلى كل وسيلة تحقق له غايته التي تعكس أنانيته المطلقة ورغبته الجامحة في التخلص من كل من عرفه عن قرب وأدرك نقاط ضعفه العديدة، وعلى رأس هؤلاء كان يقف محمد دحلان، وللحديث بقية ...
الرواية المفقودة .. عربدة الاستبداد (1-2)
تاريخ النشر : 28 ديسمبر, 2020 06:03 مساءً