رفح تاريخ دموي مع الاحتلال الإسرائيلي
تاريخ النشر : 01 ديسمبر, 2020 03:22 مساءً

الحارسة الجنوبية لقطاع غزة وبوابة الصمود التي شهدت منذ أن وطأ الاحتلال أرض غزة العشرات من الجرائم ، ومن أزقتها المهترئة خرج مئات المناضلين الذين تدرس نضالاتهم لتخرج كوادر تعي جيداً كيف يكون النضال والتضحيات .  

تشغل رفح موقع حدودي هام في قطاع غزة ولكنها باتت مهمشة تاريخياً وإعلامياً وحتى على صعيد الخدمات المقدمة للقطاع دائماً تُوضع على رفح على رف الـتأجيل والتسويف ، وهان نحن اليوم نضيء شاشاتنا لنسطر بعضاً مما كابدته مدينة رفح من معاناة وحسرات عاشتها قديماً ، فكي لا ننسى نحن ولا من بعدنا كان علينا النبش في قبور الذاكرة علها تسلط الضوء على أحداث أسقطها التاريخ ولم تحفظ سوى في ذاكرة من عايشوها.

الحاج عبد الرؤوف أبو تبانة "أبو أيمن" الذي يحمل بين دفتي ذاكرته العشرات من الذكريات والحوادث المريرة التي عايشتها رفح خلال النصف القرن الماضي ، فرسم الصورة لنعيش وسط الحدث وكأننا نشتم رائحة البارود ونرى المجازر عياناً وتعمي أعيننا عجاج الطرق التي شهدت أبشع المجازر ..

" اللمة "

أسند أبو أيمن عكازه على رأسه وبدا كلاً منهما يأخذ ثباته من الآخر ، بدأ بأول حادثة رسخت في رأسه ولم تفارقه على الرغم من حداثة سنه ، ففي عام 1956م كان أبو أيمن في ذلك الوقت طفل لم يتجاوز السادسة من عمره ، حامت طائرات الهيلوكبتر تستدعي الرجال من سن 16_50 للخروج والتوجه للمدارس أو بما يعرف "اللمة" بدأ الرجال يتحركون تجاه المدارس حيث يتعرضون للضرب والإهانات إلى جانب التفتيش الوحشي الذي طال المنازل والنساء وحتى فراش النوم .

وبعد انتهاء النداء طلبت والدته أن يجلب الحطب حيث أن سنه الصغير قد يعفيه أمام الاحتلال ، ولكن لم تعفي عيناه عما كان ينتظره ، حيث خلال توجهه لجلب الحطب شاهد جنديان استوقفا شاب من عائلة " أبو ختلة " كان قد تأخر عن اللمة، اعتديا عليه بالضرب المبرح ثم وضعاه على الأرض ليعتلي أحدهما عنقه بحذائه العسكري ، ومن ثم ثبت البندقية على جبينه من مسافة صفر وأطلق النار.

مشهد الدماء التي اختلطت بعظم الجمجمة وصوت العيار الناري لم تفارق خيال أبو أيمن رغم مرور العشرات من السنوات ولكنها بقيت حاضرة شاهدة على دموية الاحتلال .

مجزرة المدرسة الأميرية

وتباعاً لسلسلة المجازر فصباح 12 نوفمبر 1956 كان دموياً بامتياز ، حيث بدأت النداءات عبر مكبرات الصوت التابعة للاحتلال بأن على الرجال من سن 15 _ 45 التوجه إلى المدرسة الأميرية وسط مدينة رفح ، و بدأ الرجال بالتوافد رويداً من مختلف شوارع الأحياء السكنية وأزفة المخيمات .

ودون سابق إنذار فُتحت النيران على الوافدين إلى المكان ليسقطوا شهداء قبل أن يصلوا أو حتى يستوعبوا ما يدور ، ليتم بعد ذلك جمع من نجا إلى داخل المدرسة ويتم نقلهم عبر شاحنات كبيرة إلى مناطق مجهولة ليتم تصفيتهم والتخلص من جثامينهم ، في وقت لاحق قامت قوات الاحتلال بجمع من لم يقضِ في تلك المجزرة ونقلهم إلى منطقة " تل زعرب" غرب مدينة رفح ليحفروا مقابر جماعية يتم دفن الجثامين فيها بشكل جماعي وبعضهم كان فيه نبض الحياة ولكن أنزلت الرمال عليهم أحياء، وتم استدعاء ذويهم لاحقاً للتعرف عليهم ، حيث بلغ عدد شهداء المجزرة ما يزيد عن 200 شهيد.

تزامناً مع الحرب

في عام 1967م كانت رفح على موعد جديد من قتل عشوائي لا يحمل الشهيد ذنباً سوى أنه فلسطيني ، فمنذ أول يوم في حرب 67م كان استهداف المواطنين العزل متزامن مع الحرب الشعواء ، حيث في ساعات المساء من أول أيام الحرب فُرض منع التجول والتزم الجميع بيته ، ومن بين هذه الجموع أعمام وأبناء عمومة الشهيد القائد أبو علي شاهين ، الذين كانوا قد التزموا منازلهم مستمعين للأخبار بالسرقة عبر راديو قديم يُكتم صوته كلما مرت سيارة أو جيب عسكري تابع للاحتلال.

طُرق الباب .. فإذا بقوة عسكرية تهاجم منزل شاهين ، تم تفتشيهم شخصياً والعبث بمحتويات المنزل بشكل استفزازي ومصادرة هوياتهم الشخصية، وأثناء خروجهم شتمهم أحد أعمام أبو علي فتبين أن أحد الجنود يتقن العربية ليقوم بسحب جميع من كان في المنزل بالإضافة إلى جارهم " سالم عوض " الذي كان يبلغ من العمر 70 عاماً _ لم يكن ذنب ذلك المسن سوى أن صوت بابور الكاز الخاص به لفتهم إليه _.

أجبرهم الجنود على الوقوف في صف واحد مستندين حائط منزلهم ليقوموا بإعدامهم بدم بارد رمياً بالرصاص وبقوا الشهداء في أمكانهم حتى تصافت دمائهم ، لم يتمكن ذويهم من دفنهم سوى في قبر جماعي شرق المدينة وكان يعد القبر الجماعي الأشهر في مدينة رفح .

أشقاء العروبة

حتى أشقاء العروبة الجنود المصريين نالهم من القتل الممنهج والمجازر نصيب ،فيقول أبو أيمن في رابع أيام حرب 67م وضعت الحكومة المصرية بعض المؤن كالأرز والحليب وغيرها في مستودع مدرسة القدس في وسط مدينة رفح ووضعوا عليه الحراسة من الجنود المصريين الذين كانت خبرتهم آنذاك محدودة نظراً لأن تم استدعائهم وتجنيدهم إجبارياً بسبب الحرب وكان سلاحهم "لانكستر" البطيء.

لم يكن الوضع مطمئن فاضطر الجنود المصريين للتمركز في مدرسة "أ" و "ب" حالياً بالقرب من مسجد العودة بمدينة رفح ، ومجرد ما استقر بهم الحال ، وبدؤوا بوضع أمتعتهم ومد طعامهم قامت قوات الاحتلال بإمطارهم بالرصاص لتوقع 34 شهيد من الجنود المصريين .

كان الجنود المصريين متوقعين أن يرتقوا شهداء حيث كانت خوذهم تحمل لقب " الشهيد" وكلٌ باسمه .. نظراً لصعوبة الوضع في تلك الأيام دفن أهالي مدينة رفح جثامين الشهداء المصريين في فناء المدرسة ليتم لاحقاً استخراجهم ودفنهم في مقبرة جماعية شرق مدينة رفح.

مجزرة العواذرة

ويتتابع مسلسل الدم ففي اليوم السادس لحرب 67م ، ألقيت قنبلة على جيب عسكري إسرائيلي ودمرته وأدت إلى مقتل من فيه ، أبلغ المتخابرون مع الاحتلال أن أحد أبناء عائلة "أبو عاذرة" هو من ألقى القنبلة على الجيب.

لتُفتَح النيران على عائلة أبو عاذرة لم يُرحم طفل أو مسن أو امرأة حيث دُمر نحو 80 منزل على رؤوس ساكينه من عائلة أبو عاذرة متبعاً الاحتلال سياسة العقاب الجماعي ، ليوقع ما يزيد عن 15 شهيد من عائلة أبو عاذرة بالإضافة إلى سقوط شهداء من عائلات مجاورة " شيخ العيد وبربخ".

"كامب " الدوليين

يروي أبو أيمن بعد أن أخلى الدوليين "كامب" كانوا يتواجدون فيه ، دفع الفقر والحاجة الناس لأخذ ما تبقى خلف الدوليين من أغطية وفراش وملابس وحتى بقايا المعلبات والأطعمة ، ولكن بنادق الاحتلال غدرت بهم حيث هاجمت قوات الاحتلال من كانوا داخل الكامب وأوقعوا 8 شهداء ، بالإضافة إلى إصابة عدد كبير من المواطنين حيث أحد المصابين حمل أمعائه بيديه بعد أن خرجت من مكانها بسبب إصابته حتى وصل إلى مركز الرعاية الصحية .

عملاء بزي الفدائيين

في صبيحة 15 أغسطس عام 1971م ، كان صباح غير اعتيادي ستشهده مدينة رفح لما حمل هذا اليوم من أحداث ، فمع ساعات الصباح الأولى انتشرت قوة للعملاء المتعاونين مع الاحتلال ترتدي زي الفدائيين في ذلك الوقت.

هاجمت تلك القوة منزل الشهيد محمد حمد والمقلب بـ "المالوطي " _ عرف الشهيد خلال تلك الفترة بنشاطه ضد الاحتلال حيث كان يملك "خص " من البوص يستعمله كمحل حلاقة بسيط يوفر قوت يومه منه وكان أيضاً مخبأه الذي يضع فيه قنابله التي يلقيها بشكل دائم على ما يعرف اليوم بمحطة بهلول بمدينة رفح حيث وقتها كانت المحطة تتبع للشركة الإسرائيلية "سونول" _ دور الشهيد حمد أجبر الاحتلال إلى اتخاذ قرار بالتخلص منه .

طالبت القوة بإخراج الشهيد حمد وأخذت تنعته بالعميل واعتدت عليه بالضرب المبرح ، لتشويه صورة حمد أمام ذويه وجيرانه ، ولكن كما يقال الشمس لا تغطى بغربال لما عرف عن نضال حمد ، اقتادت تلك القوة الشهيد حمد لتقوم أيضاً باعتقال كلاً من محمد العاجز وإبراهيم المغاري والذي عرف عنهما أنهما رفيقا درب حمد .

بعد عدة ساعات أعلن جيش الاحتلال تصفية الشهداء الثلاثة حيث تم قتلهم والتمثيل بجثثهم لحد البشاعة ، ليروي رواية مغايرة للحقيقة فكانت رواية الاحتلال الذي أعلنها ذلك الوقت عبر إذاعة البث الخاصة به" أن قوة من قوات الجيش تعرضت لإطلاق النار من قبل مخربين تم الرد عليهم بإطلاق النار ولكن دون استجابة مما اضطر الجنود لتصفيتهم"..

لم يمر على هذه المجزرة البشعة سوى أسبوعين لتعاد الكرة مرة أخرى مع الشهيد صبحي أبو ضاحي ، حيث مع ساعات الفجر الأولى هاجمت قوة من العملاء بزي الفدائيين على رأسهم ضابط من جيش الاحتلال _يهودي يمني_ يدعى "توبي ".

طالبت القوة والد الشهيد صبحي بتسليمهم ابنه ثم قاموا بتفتيش البيت واعتقال صبحي ، وخرج صبحي و اقتادوه إلى مكان آخر بعيداً عن منزله حيث كان يتواجد عدد من ذوي العملاء الذين قام الشهيد أبو ضاحي بتصفيتهم .

أعدِّم الشهيد أبو ضاحي بدم بارد بثلاثة رصاصات استقرت في عينه وأنفه وأذنه ، ليزف لوالده نبأ استشهاد نجله الذي قال بفخر :" إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله .. الله يرحمك يابا الله يرحمك يا صبحي ".

يذكر أن زوجة الشهيد أبو ضاحي وقت اغتياله كانت في أشهر حملها الأخيرة لترزق لاحقاً بطفل أطلقت عليه اسم " صبحي" ، كما يعتبر ابنه الشهيد أسامة من أوائل من نفذوا عمليات طعن ضد جنود الاحتلال على معبر رفح خلال الانتفاضة الأولى عام 1988 حيث طعن ثلاث جنود وأطلقت عليه قوات الاحتلال النار ليرتقي شهيداً .

طائرة مقابل 6 بنادق

أما صاحب الست بنادق فكان لناضله رسالة أوصلها لقوات الاحتلال رغماً عن أنفهم، حيث لم يكن يعرف عن " زيدان الأخرس " سوى أنه خلوق هادئ الطباع ، تنظم الشهيد مع قوات التحرير الشعبي في ذلك الوقت ، و تمركز نشاط الشهيد غرب مدينة رفح حيث كان يقوم بزرع الألغام في طريق "المجنزرات" الإسرائيلية.

فيروي أبو أيمن أنه في 19/1/1969، قامت إحدى المجموعات التابعة لقوات التحرير الشعبية وعلى رأسها الشهيد زيدان الأخرس في مدينة رفح بزرع عدة ألغام في طريق تُرابي يُعدّ الخط الفاصل بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية، وقد انفجر أحدها تحت سيارة الجيب التي استقلها الحاكم العسكري أبراهام زاكس والملازم أول شيموئيل فريدي مما أدى إلى مقتلهما، وأخفت قوات الاحتلال هذه الأنباء لتعلن عنها لاحقاً في مطلع عام 1970م .

بعد عدد من الاستهدافات الناجحة التي قام بها، بدأ الاحتلال يتتبع تحركات زيدان ويتعقبه لاغتياله، و بتاريخ 22/1/1971 رصدت قوة إسرائيلية الشهيد في "بيارة" تعود ملكيتها لـ (ح. ظ) حيث أبلغ الأخير عن وجود زيدان في البيارة مع عدد من الفدائيين حيث كانوا قد اتخذوها كنقطة وقاعدة لقاء واجتماع .

وقبيل أذان الفجر الذي يعد موعد خروج الفدائيين ومُغادرتهم للقاعدة، أخذ الجيش الإسرائيلي يُعلن عبر مُكبر الصوت بدء منع التجول على جميع سكان المنطقة، ثم أخذ يُنادي على المطارَدين بأسمائهم ويقول "سلموا أنفسكم لجيش الدفاع الإسرائيلي وعليكم الأمان"، وقد كان في تلك القاعدة فواز خميس عياش، وزيدان الأخرس، وعبدالله سليمان أبو نقيرة ولم يستجب الفدائيون لنداء الجيش، بل عمل زيدان وعبد الله على إقناع فواز بالانسحاب تحت ستار من النيران يقومان بإطلاقها تجاه الجيش الإسرائيلي.

بعد أن تمكن فواز من الانسحاب إلى بيارة مُجاورة، بدأ الجيش يُركز نيرانه على مصدر نيران الفدائيين الذين بادلوا الجيش النار بالمثل، حيث قام الشهيد زيدان بربط ستة أسلحة من نوع " كارلو ستاف " بحبل في كلتا يديه ويطلق النار بشكل مكثف ، لم تتمكن القوة الإسرائيلية من مجابهة بسالة زيدان ورفيقه فقامت باستدعاء طائرة هيليوكبتر التي بدورها قامت بتمشيط البيارة وإطلاق النار بشكل مكثف وأخذ الجيش يتقدم في البيارة بعد الساعة 2:00 ظهراً، عندما تأكد من إسكات نيران الفدائيين، فوجد زيدان قد استشهد، وعبد الله أبو نقيرة مصاب بعد نفاذ ذخيرته.

من الجدير بالذكر أن الشهيد زيدان الأخرس هو نجل الشهيدة آمنة الأخرس التي عرف عنها مقاومتها الاحتلال والتي أسقطها الاحتلال برصاصته بعد أن أصابت رأسها خلال تصديها للجيش خلال اعتقاله لأبناء مدينة رفح في المدرسة الأميرية ، وأبعدت عائلته إلى منطقة النخل ، وتفرق أشقائه في أصقاع الأرض بعد سياسة العقاب الجماعي والترحيل التي كان يتبعها الاحتلال آنذاك .

قوات التحرير الشعبي

بدأت الفكرة من نابلس حيث كان الشبان يستهدفون الدوريات العسكرية سواء بالقنابل أو "المولوتوف" ، ثم انتقلت الفكرة لقطاع غزة حيث قام شاب من عائلة "نوفل" باستهداف الحاكمية العسكرية بغزة وأجهز على ما فيها وبقي في انتظار القوة الداعمة ولكنها لم تحضر وخلال انسحابه من مقر الحاكمية تم تصفيته .

بعد تأسيس حركة فتح وإعلان انطلاقتها تحول جيش التحرير لينضم إليه حيث لم تكن قبل تلك الفترة أي وجود عسكري لحركة فتح على الأرض ، ولكن حين تمخضت الفكرة ضمت بين دفيتها القتال المسلح و وتبنت النضال الشعبي .

امتدت المصائب والويلات على مدينة رفح مروراً بانتقاضة الأقصى التي شهدت خلالها شوارع رفح العشرات من جرائم الاغتيال ، ومروراً بالحروب التي أنهكت القطاع كله وغيرها من المآسي التي بسببها شطبت عائلات كاملة من السجل المدني حيث سحقتهم آلة الحرب الاسرائيلية .

مازالت الأجندة مليئة بحكايات رفح ، ومازالت أقلامنا تسعى لتسطير المزيد من قصص النضال الشعبي الذي احترفه المواطنين على امتداد قطاع غزة ..

----

ت . ز